جملة من الأحداث المؤذية والمتزامنة في
لبنان؛ بين ثورة تشرين (2019) وانفجار "بيروتشيما" وكارثة الطيونة والتشعبات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة، مرورا بحالة الشلل على المستويات الإدارية كافة ضمن إطار مؤسسات الدولة، ووصولا إلى الأزمة مع دول الخليج العربي الآخذة بالتفاقم بشكل سلبي وبلا حلول حتى الساعة، التي ربما لن تصل إلى حلول طالما بقيت المقاربات عالقة بين معركتي السيادة والولاءات والمحاور المتنوعة؛ وما أكثرها في بلاد باتت تئن من ملفات جمة آخرها ملفات أساسية في الأمن الغذائي والأمن الاجتماعي
التعليمي والخوف على الأجيال القادمة.
لقد أظهر تقرير أعدته الأمم المتحدة ونشرته منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، الاثنين، ارتفاع مستويات سوء التغذية حول العالم بشكل حاد خلال 2020 جراء جائحة فيروس كورونا، مما يعني أن عدد من يعانون سوء التغذية ارتفع إلى حوالي 768 مليونا العام الماضي، وهو ما يعادل 10 في المائة من سكان العالم.
ومن هنا أنطلق لأتحدث عن التقارير التي أشارت إلى أن لبنان على شفير أزمة متفاقمة، تبدأ مما أعلنته اليونيسف، حيث إن أكثر من 30 في المائة من الأطفال في لبنان ينامون ببطون خاوية، لعدم حصولهم على عدد كاف من وجبات الطعام، وأن 7 في المائة من الأسر لا تملك ما يكفي من الغذاء أو من المال لشرائه، وأن 60 في المائة من الأسر تضطر إلى شراء الطعام عبر مراكمة الفواتير غير المدفوعة أو من خلال الاقتراض، وأن ما يقارب 40 في المائة من الأطفال ينتمون إلى أسر لا يعمل فيها أحد. فهل من يضرب ناقوس الخطر بعيدا عن شعارات فارغة تشبه حل برادات اللبنانيين وبطونهم الخاوية؟!!
أما على المستوى التعليمي، فلا شك أن بلاد الحرف باتت على الحرف، والكل يعلم حقيقة الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي يرزح تحته كثير من اللبنانيين. لكنْ، لموظفي قطاع التربية والتعليم قصص من نوع آخر وطبيعة أخرى، حيث إنهم الجهة الوحيدة المؤتمنة على ما تبقى من وطن.
ببساطة إنهم المؤتمنون على أجيال بأمها وأبيها في زمن كورونا (كوفيد 19) البغيض؛ الذي هز المستوى التربوي العام في البلاد بعد سنتين من التعطيل القسري، الذي أتلف ما أتلف وعطل ما عطل في حياة التلامذة والقطاع برمته.
لا أحد يشك بنوايا وزير التربية الحالي الدكتور القاضي عباس الحلبي في إيجاد مخارج وحلول لكل القطاع التربوي، والكل يعلم أنه ضنين على سلامة انطلاقة القطاع بكل أركانه المدرسية، إدارة وتلاميذ وأساتذة، ولكن باتت الأسئلة تقلق وتزداد يوما بعد يوم، خاصة بعد إضراب الإدارة العامة المفتوح الذي فيه كل الأحقية، والممزوج مع إضراب اللجان والروابط وسائر الجسم التربوي، الذي إن انطلق من مكان، فمطباته صارت أعلى وأكثر وأثقل كل يوم. وللأسف لا أحد يضمن قابل الأيام دون حلول دائمة.
تقول الحكمة: "إذا أردت أن تهدم حضارة أمّة فهناك وسائل ثلاث: اهدم الأسرة والتعليم وأسقط القدوات والمرجعيات". بالطبع، إن هذه الأسباب تكاد تكون كافية لهدم حضارة أمّة قوية، فكيف بأمة بات واقعها السياسي المقرف يضرب كل شيء بلا هوادة ولا رحمة؟ أمة بات 82 في المائة من شعبها فقراء، بحسب البنك الدولي، وبات تضخم اقتصادها يفوق 400 في المائة، وثالثة الأثافي انهيار العملة المنعكسة على انهيار القدرة الشرائية، بحيث أصبح الدولار عند عتبة 23000 ليرة للدولار الواحد، وأضحى الأساتذة بكل فئاتهم ومعهم موظفو الدولة خاسرين 94 في المائة من رواتبهم، وكأني بيد التضخم قد سرقت من جيوبهم قوت أولادهم وحياتهم الكريمة وسبل البقاء الحقيقية للأسف. ومن ثم السؤال الكبير: هل من يريد أن يقوض مؤسسات الدولة بدأ بضرب هذه القطاعات الحيوية عبر إفقارها لضرب ما تبقى من هيكلية الدولة أو ما تبقى منها، فيصبح الحال فقرا وجوعا وتجهيلا للأجيال؟!!
ولا أدل على ذلك من البيانات المختلفة التي أصبحت قوتا يوميا في نشرات الأخبار تدل على ضياع القطاع! كيف لا، وأنت تسمع صرخة أستاذ ثمن حصته باتت لا تساوي ثمن ساعة عمل "اللفاية" أو عاملة المنزل (مع شديد احترامنا لكل عمل وكل عامل)، التي تقبض بالفريش دولار؟ أي كرامة وأي قطاع تعليم هذا؟!!
إن المآسي لا تنتهي في التعليم الأساسي والثانوي بشقيه الخاص والرسمي خصوصا، حيث وجه المأساة تراه في أستاذ يتسول كل السبل للبقاء من جهة والحفاظ على تلامذته من جهة أخرى.
أما التعليم المهني، فالصرخة أشد وطأة وأعلى بكثير، فهم باتوا يعانون الأمرّين لقطاع معظمه من المتعاقدين، وما أدراك ما المتعاقدون؟! حيث الوجع بكل أشكاله، فهم معلمون وليسوا بمعلمين لناحية التقديمات وسعر الساعة وكل عوامل التثبيت.
إن أساتذة التعليم المهني يصرخون في برية تستثنيهم من كل ما يحاك من عمل ومفاوضات جدية لانطلاقة العام الدراسي. كيف لا، وهم من يعاني من صيف وشتاء تحت سماء واحدة وسقف واحد وقطاع واحد، وهم الذين لم تلحظهم حتى الساعة أي حلول من مساهمة البنك الدولي بحيث أعطيت فقط في التعليم الأساسي والملحقين بهم؟!! فلا عام دراسي مهني حتى الساعة، وبذلك بدأت العائلات تركض ركض الوحوش لكي تتمكن من إنقاذ أبنائها عبر نقلهم نحو المهنيات الخاصة، في زمن يكاد رب العائلة لا يكفي أهل بيته أساسيات البقاء!!!
أما التعليم الجامعي، فقد غدا قاب قوسين أو أدنى من أن يسرق منه تميزه، عندما كان يتغنى بلبنان درة الشرقين وجامعة العرب، حيث الحال يبكي على حاله في النواة الأساسية والمدماك الحقيقي لنهضة الوطن.
هل تعلمون يا سادة أن من أسباب نهضة اليابان بعد إلقاء القنبلة الذرية عليها عام 1945 في الحرب العالمية الثانية، هو التعليم ولا شيء غير التعليم؟ فبعد شهر واحد من إلقاء القنبلة عليها، عاد استئناف التعليم. وبالعلم ارتقت اليابان بين الأمم وعادت أقوى من قبل.
من هنا، باتت الأصوات أعلى لتسأل: من يسمع أنين أطفال وهم يبكون لأجل علبة حليب وحبة دواء في زمن غياب الدعم عن المحروقات والغذاء والدواء، حيث لم تبصر البطاقة التمويلية طريقها إلى بيوت الفقراء، وربما لن تبصر بسبب عجز تمويلها؟!
من يسمع صوت أمهات يردن إطعام أولادهن بلا مذلة طعاما كافيا وصحيا ومتوازنا للنمو، بدل سوء التغذية الذي يضرب بلا هوادة في كارثة تطرق الأبواب؟!
متى نتعظ من أن أولى بوادر الحلول لأزمتنا بكل أشكالها تبدأ من رفع مستوى أبنائنا في مدارسهم، عبر المحافظة على جودة تعليمهم، فيكون التعليم مقدسا؟
متى نتعظ ونعيد للأساتذة هيبتهم وكرامتهم عبر دعم القطاع التربوي بكل فئاته؟
متى نعطي التعليم المهني أولوية كما سائر القطاعات الأخرى!!!
متى يتعاطى البعض مع التعليم على أنه من الضروريات وليس الكماليات، وأن الأساتذة هم عماده وعماد الوطن، وليسوا متسولين في الشوارع وعلى قارعة الطرقات؟!!
متى تستفيق المؤسسات الدولية العاملة تربويا إلى أنها مدعوة لمد يد العون للبنان، بلاد الحرف والثقافة والنور أكثر وأكثر بعيدا عن أي اعتبار آخر؟!!
متى نتعظ ونكرم ما تبقى من كفاءات تربوية، قبل أن تغادر الوطن إلى غير رجعة ولات ساعة مندم؟!!
يا أصحاب القرار في الداخل والخارج، اعلموا أن بعض الأسر في لبنان الجريح الذبيح، لا تستطيع إطعام أطفالها، فكيف لها أن تستطيع إرسالهم إلى المدارس وتحمل أعباء مصاريف نقلهم التي غدت بملايين الليرات شهريا؟!!
يا أيها المعنيون وما أكثركم وما أقل هممكم: هل أصبحنا أسرى الكباش السياسي الإقليمي والدولي في زمن الجوع والفقر والجهل - للأسف - الحديث على أبواب العام 2022؟!