تقارير

الشيخ عبد القادر المظفر.. أقلق الاحتلال البريطاني لفلسطين

الشيخ عبد القادر المظفّر نموذج للشيخ والشاعر والمثقف المناوئ للاحتلال الإنجليزي لفلسطين
الشيخ عبد القادر المظفّر نموذج للشيخ والشاعر والمثقف المناوئ للاحتلال الإنجليزي لفلسطين

هو شاعر لم تُجمع أشعاره، ولكن مواقفه جُمعت، وبعض المواقف كانت بالشعر.. كان صلباً ضد الاحتلال، لا يخشى في الحق لومة لائم، يقول ما يؤمن به، ويدافع عن قضاياه التي يتبناها.. اشتهر في حياته بالصدق في القول والإخلاص في العمل، والتضحية في سبيل الدفاع عن الدين والوطن.

عاصر الحركة الوطنية الفلسطينية في أدقّ مراحلها وأكثرها حساسية، وكان من المؤثرين في مواقفها المفصلية. فصار من أعلام الحركة الوطنية الفلسطينية ورجالاتها.

جمع في حياته الإفتاء والخطابة والشعر والأدب والمقاومة والسجن والمؤتمرات والتظاهرات ومعظم الأعمال الوطنية الفلسطينية، ولم يتراجع أو يتنازل أو يهادن، حتى تسبب بقلق للاستعمار البريطاني الذي ضيّق عليه وسجنه وساومه بسجنه، وبقي مستعصماً بمواقفه.

من هو المظفّر؟

ولد الشيخ عبد القادر المظفّر في مدينة القدس عام 1880، وتلقى دروسه الابتدائية والإعدادية فيها على أيدي كبار علمائها، ونشأ من بيت علم وأدب، كان أبوه الشيخ المظفّر مفتي الحنفية في مدينة القدس، ويشرف على إدارة الوعظ والإرشاد في أنحاء البلاد، وكان معروفاً بالتقى والورع، ومشهوداً له بالتفوق على أقرانه في الفقه ورواية الحديث. فاعتنى بتنشئة ابنه عبد القادر تنشئة دينية ووطنية، وأشرف بنفسه على تحفيظه القرآن وتعليمه التجويد وتدريسه الفقه، وتحفيظه أشعار الحماسة وأخبار الأبطال والتاريخ العربي.

وبقي يدرس الدين واللغة عند والده المفتي الحنفي، إلى أن توفاه الله، وكان عبد القادر في الخامسة عشرة من عمره. 

ارتحل الطالب عبد القادر بعد وفاة والده بسنتين إلى القاهرة والتحق برواق الشوام في الأزهر الشريف، وبقي هناك ينهل العلم ويحفظ أمهات الكتب والعلوم الدينية واللغوية حتى نال الشهادة من الأزهر.

شارك في الحملة التي قادها جمال باشا لطرد الإنجليز من مصر، وكان يدعو لطرد المستعمرين من البلاد وحماية الدولة العثمانية من السقوط. وتم تعيينه مفتياً للجيش العثماني خلفاً للشيخ أسعد الشقيري، فسعى للعفو عن رجالات العرب المعتقلين لأسباب سياسية. وعند دخول الأمير فيصل إلى دمشق تولى المظفر رئاسة النادي العربي ودعا إلى طرد المستعمر الفرنسي من البلاد.

عاد إلى فلسطين ليعمل في الحقل الوطني، فاختاره الحاج محمد أمين الحسيني، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، رئيساً لوفد فلسطين إلى القارة الهندية لشرح القضية والمطالبة بدعمهم.

 

                               الشيخ المظفر في مكة المكرمة

استهل الإنجليز حكمهم فلسطين بفتح أبواب الهجرة اليهودية، ونقل ملكية الأراضي الأميرية، الأمر الذي أثار حفيظة الشيخ عبد القادر ضد الصهاينة والإنجليز، فراح يخطب في الناس إثر صلاة الجمعة في المسجد الأقصى ومسجد عمر بن الخطاب، يحثهم على الثورة والجهاد للمحافظة على الأرض وتحرير البلاد من حكم الانتداب، فأوعزت الوكالة اليهودية إلى المندوب السامي باعتقاله فتردّد بادئ الأمر، ولكنه عاد فاستجاب منتهزاً فرصة الثورة التي اشتعلت سنة 1920، فاعتقله في سجن المسكوبية بتهمة تحريض الجماهير على الثورة، ثم رأى المندوب السامي أن يكسب ودّ هذا الخطيب المفوّه، فأخرجه من السجن وأسند إليه منصب إفتاء.. فخرج من السجن كما دخل، وتابع ما كان يقوم به من دفاع عن الأماكن المقدسة وسعي لتحرير فلسطين.

ولم يكتفِ بذلك، بل ذهب على رأس وفد من الحجاج إلى مكة المكرمة كرئيس بعثة الحج الفلسطينية (انظر الصورة المرفقة على يمين منتصفها وهو يخطب في الحجاج اليمانيين والنجديين 1920 ويطلعهم على الأحوال في فلسطين وخاصة نوايا الحركة الصهيونية تجاه الأماكن المقدسة في مدينة القدس).
 
وكان في شهر آب (أغسطس) عام 1922 في مقدمة الداعين إلى المؤتمر العربي الفلسطيني الخامس الذي انعقد في نابلس، والذي أقرّ به المؤتمرون بالإجماع الميثاق الوطني التالي:

(نحن ممثلي فلسطين، أعضاء المؤتمر الفلسطيني الخامس نُقسم أمام الله والأمة والتاريخ بأن نواصل المساعي المشروعة لتحقيق الاستقلال والاتحاد العربي، ورفض الوطن القومي اليهودي، والهجرة الصهيونية).

تولى المظفّر منصب أمين سر مكتب "المؤتمر الإسلامي العام" الذي عُقد في مدينة القدس في عام1931 للدفاع عن الأماكن الإسلامية فيها، بمشاركة عدد كبير من وفود الدول العربية والإسلامية، وانتخب عضواً في اللجنة التنفيذية التي انبثقت عن ذلك المؤتمر، كان المظفّر أحد أعضاء "اللجنة العليا لصندوق الأمة" الذي تأسس في أيلول (سبتمبر) 1932، برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي، وكان نواة الشركة التي أُنشئت باسم "الشركة العربية لإنقاذ الأراضي بفلسطين".

لم يهادِن الشيخ المظفّر الاستعمار، وفي 27-10-1933، كان يقود مظاهرة حاشدة فاعتقلته سلطات الاحتلال البريطاني ولم يدفع الكفالة المالية، وبقي في الاعتقال ستة أشهر. ونظم في هذا شاعر فلسطين إبراهيم طوقان عن مواقف الشيخ، فقال:

انظر لما فعل المظفر، إنه         ..     نفع القضية غائباً لم يحضرِ
عرضوا الكفالة والكرامة عنده     ..     عبثاً، وهل عرض يُقاس بجوهر
ورأى التحيّر في التخيّر سُبّةً        ..     ففدى كرامته بـ (ستة أشهر)
لم يخلُ ميدان الجهاد بسجنه    ..      فلقد رماه بقلبه المتسعّر

من طريف شعره، أن الشاعر أحمد حلمي عبد الباقي (رئيس حكومة عموم فلسطين لاحقاً)، ذهب لتفقد أعماله في يافا، وقرر مع زملائه مباغتة الشيخ على الغداء، وأنشد يقول: 

قل للمظفّر إن أتيتَ رحابَهُ              ..            وحللتَ في ذاك الجنانِ الأمرع
يا طاردَ الأضيافِ إن طلبوا القِرى         ..           قد جئتُ ضيفاً إنما الزادُ معي

فردّ المظفر مرتجلاً:

أهلاً بمقدمِكَ السعيدِ ومرحباً       ..            ما كنتَ بالضيفِ الثقيلِ لتُمنعا
فانعَم بِهِ يا سيّدي مُتفضلاً         ..            والزادُ يا مولايَ نأكلُهُ مَعاً

وبعد أن فرغ الضيوف من الطعام، قال أحمد حلمي:

رَفَعنا للمظفرِ آيَ شكرٍ        ..        وقد جاءَ الغداءُ كما يُرادُ
فقالوا: إنَّه بالجودِ فردٌ         ..       وقلنا: إنهُ نِعمَ الجوادُ

فرد عليه المظفر:

بِنفسي سَيِّدي الباشا المُفدّى        ..      ومَن بِودادِهِ يزهو الودادُ
دَعوتك للغداءِ على انفرادٍ         ..      فجئتَ وجاءَ أربعةٌ شدادُ
أبادوا ما ببيتي من طعامٍ          ..      فسادَ الذعرُ وانهلع الجرادُ
وهل يرضى الذراري بيتَ شعرٍ      ..     يقولُ بأنني البطلُ الجوادُ؟!

ومن جميل شعره، ما قاله لأحمد حلمي باشا عندما عُيِّنَ حاكماً عسكرياً للقدس، وقد زيّنت كتفَهُ سيوفٌ ونجومٌ وتاجٌ يلمع:

يا سيّدي إنّي سمعتُ بما جرى      ..   سيفانِ مسلولانِ فوقَ المِنكبِ
فذكرتُكُم، وذكرتُ حسنَ بلائكم  ..   وهتفتُ من فرحٍ: صلاتك يا نبي
وسكنتمُ (دارَ اليتيم) ودارُكم     ..    تشكو الهوانَ من الدخيلِ الأجنبي
مَن للنفوسِ بأن تذوقَ هناءَها      ..    أو تستلذَّ بمطعمٍ أو مشرب
يا ويحَ أمتنا وويحَ بلادنا             ..    ضاعت وضاع رجاءُ كلِّ فتى أبي
لو أننا كنا الضحايا وحدَنا          ..     هانت مصيبتُنا على المُتغلّبِ

لم يتزوج الشيخ عبد القادر المظفر رحمه الله ولم يورّث، ولم يجمع أشعاره، وعاش وحيداً في أواخر أيامه، وتوفي عن 69 سنة، عام 1949 في مدينة عمان، ونقل جثمانه إلى القدس، حيث دُفن في مقبرة باب الساهرة.

*كاتب وشاعر فلسطيني


التعليقات (0)