كتاب عربي 21

الشعار الملغم: الشعب يريد

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
من المصطلحات التي أدت إلى الفتنة الكبرى وكادت أن تعصف بالإسلام وبتجربة النبي، عندما رفع الخوارج المصاحف في وجه علي بن أبي طالب ورددوا قوله تعالى "إن الحكم إلا لله". ورغم محاولات الخليفة الرابع إقناعهم بأن قولهم هذا هو "حق يراد به باطل"، وأن القـرآن "خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان. وإنما ينطق عنه الرجال".. هكذا اندلعت أول حرب أهلية في تاريخ الأمة.

في تونس خاض المرشح للرئاسة أستاذ القانون الدستوري حملته الانتخابية التي قادته إلى قصر قرطاج رافعا شعار "الشعب يريد". وعندما أعلن عن قراراته الاستثنائية يوم الخامس والعشرين من تموز/ يوليو الماضي، التي بمقتضاها انطلق نحو إيقاف العمل بالدستور بعد أن عطل مؤسسة البرلمان، حاول أن يقنع الجميع في الداخل والخارج أنه فعل ذلك استجابة لإرادة الشعب وليس حبا في الانفراد بالسلطة.

في البداية تعاطفت معه فئات واسعة من الشعب، لكن عندما تباطأ في اتخاذ أي إجراء يصب في مصلحة هذا الشعب بدأت القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني تعبر عن مخاوفها إلى أن صدر مرسوم رقم 117 الذي منح الرئيس سعيد جميع السلطات، عندها اعتبر الكثيرون أن الحكم الفردي أصبح واقعا فعليا في تونس، وهو ما أعطى مبررا معقولا للنزول إلى الشارع لرفض هذا التحول الكبير في قواعد اللعبة والذي قرره شخص وحيد هو قيس سعيد. وبما أنه صاحب شعار "الشعب يريد"، فرد عليه المتظاهرون الذين طالبوه بالاستقالة بالقول "الشعب يريد ما لا تريده". فهؤلاء الذين تظاهروا هم جزء من الشعب، وليسوا كائنات وردت على البلاد من خارجها.
اعتبر الكثيرون أن الحكم الفردي أصبح واقعا فعليا في تونس، وهو ما أعطى مبررا معقولا للنزول إلى الشارع لرفض هذا التحول الكبير في قواعد اللعبة والذي قرره شخص وحيد هو قيس سعيد. وبما أنه صاحب شعار "الشعب يريد"، فرد عليه المتظاهرون الذين طالبوه بالاستقالة بالقول "الشعب يريد ما لا تريده"

يقول الباحثون في تاريخ الأنظمة السياسية والصراعات حول السلطة إن الجميع تقريبا، خاصة أولئك الذين يصلون إلى الحكم بطرق غير ديمقراطية، ينصّبون أنفسهم كمنقذين للشعوب، ويسمحون لأنفسهم بالتحدث باسم الشعب الذي فوضهم للدفاع عن مصالحه العليا، وأن ذلك التفويض يحمل طابعا رساليا مقدسا. من هذا المنطلق تبدأ مرحلة جديدة من الاستبداد، حتى لو كان الحاكم نقي السريرة ونظيف اليد.

لا يوجد شعب في العالم متجانس بالكامل بين مختلف أفراده ومكوناته. هناك أغلبية ما قد تلتقي حول قضية أو مطلب ما، لكن ذلك يحدث بصفة مؤقتة قبل أن تتوالى الأحداث لتكشف عن خلافات وصراعات كانت كامنة وراء الوحدة الظاهرية. فالشعب "شعوب" بالمعنى الرمزي، حيث يختلف الناس في الصغيرة وحتى الكبيرة، لهذا لا يحق لأحد أن يرى في نفسه الشخص الوحيد الذي يجسد رغبات الجماهير كل الجماهير. حتى رب العباد لم يخلقهم على رأي واحد، وسمح لهم بأن يكفروا به، بل يمكن أن يصبح هذا الموقف النافي لوجود الله أغلبي في أمة ما أو في حقبة تاريخية محددة، حي يتحول المؤمنون به إلى أقلية.

من حق الرئيس سعيد أن يدعو إلى تعديل الدستور وتغيير النظام السياسي والقانون الانتخابي، لكن ليس من حقه أن يقدم على ذلك بمفرده، وأن يغير قواعد اللعبة دون استشارة بقية اللاعبين أو مشارتهم في القرار وفي الاختيار.
بعد كل ذلك الجهد الاستثنائي يأتي الرئيس سعيد ليلقي بذلك في سلة المهملات، ويستعد لكي يشرف بنفسه على صياغة بديل ينسجم مع قناعاته وآرائه، غير عابئ بمعظم مكونات النخبة، بما في ذلك أغلبية واسعة من بين زملائه المختصين في القانون الدستوري. إنه سلوك غير ديمقراطي، وخطأ قاتل، من شأنه أن دفع بالبلاد نحو المجهول

لم يعد يختلف اثنان حول وجود خلل ما أدى إلى أزمة سياسية عميقة كادت أن تعطل مختلف جوانب الحياة في تونس، لكن لا يمكن أن يكون ذلك مبررا للإطاحة بدستور اشتركت في صياغته جميع مكونات المجلس الوطني التأسيسي. وهي مكونات لها عمقها في المجتمع، ولا يصح القول بأن ذلك الدستور صاغه الإسلاميون لوحدهم، وفرضوه على البقية، بل إن التاريخ القريب يؤكد أن حركة النهضة واجهت ضغوطا متنوعة حتى اضطرت إلى التراجع في أكثر من مسألة. كان مخاضا صعبا وكان التوصل إلى التوافق إنجازا تاريخيا حقيقيا، بعد كل ذلك الجهد الاستثنائي يأتي الرئيس سعيد ليلقي بذلك في سلة المهملات، ويستعد لكي يشرف بنفسه على صياغة بديل ينسجم مع قناعاته وآرائه، غير عابئ بمعظم مكونات النخبة، بما في ذلك أغلبية واسعة من بين زملائه المختصين في القانون الدستوري. إنه سلوك غير ديمقراطي، وخطأ قاتل، من شأنه أن دفع بالبلاد نحو المجهول.

تونس حبلى بأحداث جسام، والمؤشرات تدل على أن الخلاف بين سعيد الرئيس وبين خصومه أصبح عميقا ومعقدا، وأن الإصرار على الذهاب نحو الصدام ستكون عواقبه وخيمة، وأن تحكيم العقل وحفظ المصالح العليا للبلاد، وإنقاذ الثورة من عملية إجهاض لها أصبحت وشيكة؛ يقتضي ذلك كله إطلاق حوار وطني عاجل ومسؤول، أما إذا حصل العكس فالنتائج ستكون كارثية على الثورة وعلى البلاد.
التعليقات (0)