آراء ثقافية

حامد ربيع.. مفكر الإسلام العروبي الذي سقط من ذاكرتنا سهوا

كان ربيع قوميا ثقافيا مع وجود ميل إسلامي وكان مناهضا لحركة التنوير بشكل صريح- أرشيفية
كان ربيع قوميا ثقافيا مع وجود ميل إسلامي وكان مناهضا لحركة التنوير بشكل صريح- أرشيفية

يعد المفكر والسياسي المصري حامد ربيع مفكراً غزير الإنتاج، وتحتل آراؤه -رغم قلة ذيوعها عربياً- شهرة كبيرة في الأدبيات الأكاديمية في الغرب.

 

عاش الرجل في الغرب ردحاً من عمره، خاصةً في إيطاليا، ويُعد في الأدبيات الغربية واحدا من السياسيين العرب القلائل جداً الذين كتبوا عن الدولة الإسلامية، ولتميزه عن أغلب العلماء الحديثيين الآخرين، فهو لم يحاول تفسير الدولة الإسلامية وفقاً للمدرسة الدستورية الفرنسية، أو السلوكية الأمريكية، فهو يقدم تفسيراً مثالياً مستقلاً، ويتعذر في غالب الأحيان أن تُميز بين استخدامه صيغة الماضي بالنسبة إلى شكل الحكم الإسلامي المثالي وصيغة الوجوب بالنسبة إلى الدولة العربية المنشودة. 


وهو يجرؤ على الوقوف بحزم في خندق معاد لحركة التنوير والثورة الفرنسية، ويصرح بوضوح بتأثره بالأفكار التاريخانية الرومانسية الألمانية والإيطالية، كما أنه يرفض مفهوم الاستقلال الذاتي للدولة، ومحاولة قصر وظيفتها على الميدان السياسي، أي أنه يرفض علمنة الدولة، فبالنسبة إليه تمثل الثورة الفرنسية منحدراً شديد الخطورة للكثير من الأفكار والمفاهيم السياسية، فتلك الثورة أطلقت قوى سياسية، وحققت مفهوم السياسة القومية، بينما بذرت في نفس الوقت بذور التطرف والشوفينية والقومية، وجردت الوظيفة السياسية من أي جوهر حضاري. 


الرافد الألماني
تأثر فكر ربيع القومي بالمدرستين الإيطالية والألمانية، وبشكل خاص المدرسة الرومانتيكية الألمانية التي سادت الفكر القومي الألماني منذ احتلال بروسيا، وقد ظهرت أفكار القومية الألمانية على يد العديد من الفلاسفة كفيختة ومولر وموزر، وكان ذلك الفكر يشدد دوماً على مفهوم "الجماعة الأمة"، والذي قرنوه بالجوهر الروحي الأصيل، أي الروح الألمانية الأصيلة، لذلك كانت الإشكالية الألمانية قريبة من إشكالية الدولة العربية الإسلامية، فقد استطاع الرومانسيون الألمان أن يجدوا صلة ما بين مفهوم الجماعة ومفهوم الدولة عن طريق الأمة، حيث أصبحت الدولة تعد التعبير الأكمل والأنبل للجماعة. 


كان ربيع قومياً ثقافياً مع وجود ميل إسلامي، وكان مناهضاً لحركة التنوير بشكل صريح، وقد كان يرى الدولة القومية بشكلها الأوروبي ردة فعل على النموذج الكاثوليكي، واضعة في المقام الأول حقوق الفرد، وهادفة إلى خلق علاقة مباشرة لا وسيط فيها بين المواطن والدولة، ومجبرة الكنيسة على أن تكفي داخل شرنقتها، وهي بذلك، استطاعت في إبعاد جميع الوكالات غير السياسية عن الترابط، وهذا النموذج في نظر ربيع كان أبعد ما يكون عن أن تحتذي به الدولة العربية. 


اقترح ربيع أن الدولة العربية عليها أن تستوحي النموذج الإسلامي من خلال عملية إحياء معينة للتراث الثقافي، تكون تحت إرشاد وظيفة سياسية واضحة، وهو ما جعله ينظر إلى المدرسة الألمانية كالنموذج الأهم لأن نأخذه بعين الاعتبار، حيث عبر عن إعجابه بالكيفية التي تصرف بها المفكرون الألمان حين تعرضوا لمذلة الغزو الفرنسي، فراحوا ينقبون في تراثهم التيتوني بحثاً عن الجذور الثقافية والحضارة التي تعضدهم وتنير وعيهم بتميزهم القومي وأصالتهم. 


الإشكالية التراثية 

لقد كان لزاماً على أي محاولة لخلق وعي ذاتي قومي، سواء كان مصريا أو عربيا، أن تبحث في المصادر الإسلامية الأقدم زمناً عن أوجه التمييز والأصالة، ولم يتوقف ربيع عند هذا الطرح، بل لخص عدداً من السمات التي أطلق عليها مسمى النموذج الإسلامي الملهم في طريق البحث العصري عن الأصالة القومية. 


يعد حامد التراث الثقافي هو السبيل لإدراك الذات، فالذات الوطنية واحدة لا تقبل التقسيم، لكنها تعبر عن استمرارية ثابتة، على الرغم من وجود بعض المظاهر المتباينة على المستويين الفردي والجماعي، ولا يمكن للذات أن تدرك ذاتها إلا عن طريق الماضي، كما أن الشجرة لا يمكن لها أن تكتمل إلا بمجموعة أغصان، فإن قدرتها على البقاء لن تكون إلا بمقدار العمق الذي في استطاعة جذورها أن تصل إليه. 


للنموذج الإسلامي جوانبه في الحيوية السياسية التي يمكن لها أن تقدم إلهاماً مستمراً في مجال السياسة المعاصرة، كما يدعي ربيع، ورغم أن هذا النموذج لم يعرف فكرة التصويت أو المجالس التمثيلية أو المعارضة السياسية في شكل مؤسسات، أو ضمانات للحريات السياسية الفردية، فإن له رغم ذلك مفاهيم وديناميكيات حول التوازن السياسي، وتلك المفاهيم تضم الاعتدال والتوافق والتراضي، أما الديناميكيات فهي الموازنة والسيطرة المتبادلة ما بين الخليفة والعلماء والقضاة. 


إن شكل الحكم الإسلامي ليس دولة بالمعنى الأوروبي الذي يعرف الدولة كرقعة أرض تمتد على إقليم محدد، بل شكل الحكم الإسلامي يقدم نفسه كأمة سياسية دينية منظمة تغرض لنشر الدعوة، ووظيفة القوة والسلطة في تلك الدولة أن تعمل أداةً لبلوغ رسالة ثقافية حضارية، لذلك تكون الدولة الإسلامية دولة عقائدية ذات وظيفة اتصالية مميزة قائمة على دمج المبادئ الأخلاقية مع المثل العليا السياسية، كما أنها لا تفصل بين الحياة الخاصة والحياة العامة، فالدولة والثقافة والحضارة ترتبط جميعهاً كحبات المسبحة، إذا وقعت إحداها انفرطت الأخرى، كما أن الحضارة الإسلامية هي حضارة نضالية متميزة، وتقوم ضمن المجابهة الحضارية الخارجية وعلى أساسها. 

الدولة الإسلامية كنمط تاريخي متمايز

هكذا يرى ربيع اختلاف الدولة الإسلامية عن مفهوم الدولة القومية الحديثة على النمط الأوروبي، ففي ذلك النمط الأوروبي انحسرت فكرة الوظيفة الحضارية للدولة في خدمة وظيفة سياسية صرفة، أما الدولة الإسلامية قد اتبعت تقليد الحضارتين الإغريقية والرومانية، حيث كانت الدولة تجسيداً للإرادة الحضارية، فالوظيفة الحضارية للدولة الإسلامية تتمحور حول الدعوة، أما السياسة في دولة الإسلام فتتعلق بتأمين البيئة التي تمكن الفرد من تحقيق مثاليته كمسلم.


تتميز الدولة عند ربيع أيضاً بأنها ذات سمة عالمية في دعوتها، وهي على العكس من ذلك تجابه الدولة الأوروبية التي غدت عند ماكيافيل بوجه خاص منذ الثورة الفرنسية مجرد دولة تجريدية أكثر مما ينبغي، ومنعزلة عن الثقافة والمجتمع أكثر مما ينبغي، وهو يرى في هذا الشكل أن الدولة الأوروبية مفهوم جامد يخلو من أي وجود أخلاقي أو ثقافي، والذي يخالفه النموذج الإسلامي الذي يعبر عن مثل أخلاقي معين، ونموذج سياسي معين، لذلك على الدولة القومية العربية الحديثة أن تكون أداةً لإقامة صلة دائمة بين سيروراتها التاريخية الثلاث، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، لأن الأمة ليست قائمة على الوحدة العرقية، بل على وحدة الرؤية واللغة والحضارة، والمثل الأعلى لهذه الأمة ليس مثلاً اقتصادياً طاغياً كالدولة الأوروبية، بل مثلاً معنوياً وأخلاقياً. 


إن الدولة عند حامد ربيع هي دولة أخلاقية كما توجد عند الفلاسفة الطليان من أمثال كروتشة وجنتليه والفيلسوف الألماني هيغل، وهو يدعو لعملية إحياء للتراث بوسائل سياسية، ويقارن ذلك مع النموذج الصهيوني السياسي المعاصر، والذي نجح لكونه مستوحى من المدرسة الألمانية والتاريخية من ناحية، ومن الأدبيات الإسلامية العباسية والفاطمية حول الدعوة من جهة أخرى، فقد كانت الدعوة الصهيونية قادرة على أن تجد من خلال التراث الإسلامي نقطة انطلاق لمخاطبة عالم القرن العشرين، وتحقيق ذلك النجاح الذي لم يكن بإمكان أكثر المحللين تفاؤلاً أن يتوقعه.


وهكذا تعد رسالة ربيع واضحة، فعلى العرب المعاصرين أن يفعلوا الشيء ذاته إذا كانوا عازمين على أن يحققوا لهم دولة فاعلة وأصيلة، وتكون حديثة في الوقت ذاته التي تكون وافية للقيم الثقافية لأمتهم التاريخية. 


1
التعليقات (1)
نسيت إسمي
السبت، 25-09-2021 12:33 م
'' المفكر ضمير أمته '' لا تعدو عناصر التغيير في أي مجتمع كما يقول د. ربيع 3 عناصر، هي: الشباب والعقول والقيادات. فالشباب بطبيعته متحفز، والعقول وظيفتها الحقيقية هي التجديد والإبداع، والقيادات لا تصير كذلك إن لم تكن مستعدة لأن تقود المجتمع في مسالك جديدة تسمح بحل مشكلاتها دون أن تفقد تقاليدها. يشدد د. ربيع على أن هناك لحظات في تاريخ المجتمعات، يتعين فيها على المفكر والفيلسوف أن يخاطب رجل الشارع، يبث فيه عناصره النفسية الدفينة، ويدفع من خلال قرع الضمير الجماعي ذلك الرجل العادي ليحيله إلى قوة خلاقة، تنطلق في عملية إيمان بالذات لتصير فيضانًا يتحكم في مصائر الحركة، فمهمة العالم الكفاحية تتمثل في إرشاد أمته وترقيتها من حالات التخلف إلى الرقي والحضارة والتمدن. فالمثقف موقف، والمفكر السياسي إبداع في التعامل مع الموقف، ومعنى أن تكون عربيًا اليوم، أن تعيش حياة مليئة بالمخاطر، ومعنى أن تكون مفكرًا عربيًا في زمن السقوط هو ألا يقف أي عائق بينك وبين تصميمك على مجابهة هذا كله. يؤكد د. ربيع أن في تاريخ كل أمة تمر لحظة معينة، فإذا بها تصاب بنوع من الغشاوة الحقيقية، تضطرب مفاهيمها، ويصيب مدركاتها عدم الوضوح، ويسيطر على عقلها عدم الصلاحية، أما قياداتها بجميع مستوياتها فهي مهلهلة لا تدري أين الطريق الصحيح، قيادات سياسية فقدت الوعي، وقيادات عسكرية يصيبها الترهل، أما عن القيادات الثقافية فهي لم تعد سوى أبواق تهلل وترقص وتطبل. ولا خروج من هذه اللحظة إلا بالتمسك بتراث الأمة وقيمها، والقيام بوظيفتها التي تحتمها عليها قيمها، والانطلاق من إرادة واثقة في الله والناس للتغيير، وقدرتنا على تحويل أنفسنا وعالمنا من رعب الضياع والتفكك الذي تعيشه أمتنا. عاش د. ربيع عقدًا كاملًا من حياته راهبًا في محراب العلم، ثم نزل إلى واقعنا المعاصر ربانًا وقائدًا ومعلمًا في مجال التفكير الإستراتيجي، ليسلط الأضواء على ما نمتلك من إمكانات وقدرات وموارد، وباعثًا في طلابه أهمية تأصيل الهوية، باذلاً كل الوسع لغرس الوعي الجمعي في أبناء الأمة بتراثهم الحضاري، من خلال القيام بالدور الحضاري للأمة، باعتباره مفتاح الإمساك بالمستقبل. رغم أن د. حامد ربيع غاب عنا بجسده، فإنه حاضر معنا بفكره وعلمه وآرائه وتحليلاته الصائبة ورؤيته الثاقبة لما تمر به الأمة من معضلات وتحولات سياسية وإستراتيجية، ومن المحتم علينا اليوم أن نعيد قراءة فكر د. ربيع بعيون واقعنا المعاصر، وسنجد الكثير من الإجابات الشافية للكثير من معضلاتنا السياسية والفكرية والإستراتيجية . رحم الله عالمنا د. حامد ربيع رحمة واسعة، وسلام عليه في الخالدين.