كتاب عربي 21

القوة في العلاقات الدولية (2/2)

شريف أيمن
1300x600
1300x600
نتابع في هذا المقال تفسير رائد المدرسة الواقعية الهجومية في العلاقات الدولية، جون ميرشايمر، حول أسباب سعي القوى العظمة وراء القوة، وهي النقطة التي أوضحناها في مقال سابق، كما طرحنا بعض تفسيرات ميرشايمر لسلوك القوى العظمى وفقا للفرضيات الخمس التي طرحها، ونستكمل تصوره عن مسارات القوة في العلاقات الدولية، التي طرحها في كتابه المهم "مأساة سياسة القوى العظمى".

يناقش ميرشايمر مفهوم "الدولة المهيمنة hegemon"، وهي دولة بلغت من القوة ما يمكّنها من السيطرة على كل الدول الأخرى في النظام، ولا تمتلك دولة أخرى الموارد العسكرية اللازمة لخوض حرب كبرى ضدها، وهي دولة تكون القوة الوحيدة في النظام، لكن الدولة الأقوى بين دول أخرى لا تكون دولة مهيمنة. فمثلا كانت المملكة المتحدة في منتصف القرن التاسع عشر تسمى أحيانا دولة مهيمنة، لكن التسمية لم تكن صحيحة لوجود أربع قوى عظمى في أوروبا، هي النمسا وفرنسا وبروسيا وروسيا، فكانت أوروبا في ذلك الوقت متعددة الأقطاب وليست أحادية القطبية.

لكن يمكن أن نطبق المفهوم على نظم أصغر، ونستخدمه لوصف مناطق محددة مثل أوروبا وشمال شرق آسيا ونصف الكرة الأرضية الغربي، وبذلك يمكن أن نميز بين الدولة المهيمنة العالمية (global hegemon) التي تسيطر على العالم بأسره، والدولة المهيمنة الإقليمية (regional hegemon) التي تسيطر على مناطق جغرافية مميزة، مثل هيمنة الولايات المتحدة المهيمنة على نصف الكرة الأرضية الغربي على مدار الأعوام المئة الماضية على الأقل.

وفقا لميرشايمر، فإنه لا يمكن لأي دولة أن تحقق الهيمنة العالمية دون وجود تفوق نووي حاسم، ويتمثل العائق الرئيس أمام الهيمنة العالمية في صعوبة إظهار القوة عبر محيطات العالم على أراضي قوة عظمى منافسة. فالولايات المتحدة مثلا تعد أقوى قوة على الكوكب اليوم، لكنها لا تهيمن على أوروبا وشمال شرق آسيا بالطريقة التي تهيمن بها على نصف الكرة الأرضية الغربي، وليست لديها النية لغزو تلك المناطق البعيدة والسيطرة عليها، وذلك بسبب القوة المانعة للمياه. فلم تكن هناك قوة عالمية مهيمنة من قبل، ولا يُتوقع أن تظهر دولة من هذا النوع قريبا، لكن تعد الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة المهيمنة إقليميا في التاريخ الحديث.

ولكن رغم التباعد الجغرافي فإن الدول المهيمنة إقليميا تسعى إلى منع القوى العظمى في المناطق الأخرى من تكرار تجربتها، ولهذا السبب لعبت الولايات المتحدة دورا رئيسيا في منع اليابان وألمانيا والاتحاد السوفييتي من تعظيم تفوقهم الإقليمي. فالدول المهيمنة إقليميا تحاول كبح الدول المهيمنة في مناطق أخرى كي لا تكون خصما قويا يستطيع أن يسبب مشكلات في فنائها الخلفي، وتفضل وجود دولتين عُظْمَيين على الأقل في المناطق الأخرى، لأنهما ستركزان على بعضهما بدلا من التركيز على الدولة المهيمنة البعيدة.

هذا السلوك الذي تمارسه القوى العظمى ناشئ من الخوف، ويمثل خوف القوى العظمى من غيرها جانبا أساسيا للحياة في النظام الدولي، لكن مستوى الخوف يتفاوت من حالة إلى أخرى. ومستوى الخوف مهم لأنه يقرر بالدرجة الأولى شدة التنافس الأمني بين الدول واحتمال خوض الحروب بينهم. ومن ثَمَّ تثير مناقشة تأثير القوة على الخوف السؤال: ما القوة؟ وهنا ينبغي التمييز بين القوة الكامنة والقوة الفعلية؛ إذ تعتمد القوة الكامنة (potentioal power) للدولة على عدد سكانها ومستوى ثروتها، وهما لَبِنَتا الأساس للقوة العسكرية، وتتمثل القوة الفعلية (actual power) للدولة بالدرجة الأولى في جيشها وتحديدا القوة البرية، وتدعمها القوات الجوية والبحرية.

تؤثر اعتبارات القوة بثلاثة طرق رئيسية:

أولا، تخاف القوى المتنافسة التي تمتلك قوة نووية من بعضها أكثر من خوفها من الدول التي لا تمتلك قوة نووية.

ثانيا، حين تفصل بين القوى العظمى مساحات مائية شاسعة فإنها تعجز عادة عن إظهار قدرتها الهجومية ضد الأخرى.

ثالثا، يؤثر توزيع القوة في النظام على مستويات الخوف بدرجة ملحوظة، وترتيب القوة الذي يولد أكبر قدر من الخوف هو النظام متعدد الأقطاب الذي يضم قوة مهيمنة كامنة، أو ما يسمى "التعددية القطبية غير المتوازنة"، ويُنتج ترتيب القوة القائم على الثنائية القطبية أقل مستوى من الخوف بين القوى العظمى.

في مقابل هذا التصور القاسي للعلاقات الدولية، يذهب البعض إلى أن القوى العظمى تستطيع أن تتجاوز المنطق الواقعي بالعمل معا لبناء نظام دولي يتبنى السلام والعدالة، على أساس أن السلام العالمي وحده من شأنه أن يحسن رخاء الدول وأمنها. لكن القوى العظمى لا تعمل معا للارتقاء بالنظام العالمي كهدف في حد ذاته، بل تسعى كل منها إلى تعظيم نصيبها من القوة العالمية، وهو ما قد يتعارض مع هدف بناء نظام دولي مستقر، مع الأخذ في الاعتبار أن أي نظام دولي يتحقق على أرض الواقع يكون بالدرجة الأولى ناتجا عَرَضِيا للسلوك الأناني من جانب القوى العظمى التي تشكل النظام، حيث تأتي هيئته كنتيجة غير مقصودة للتنافس الأمني بين القوى العظمى، وليس نتيجة لدول تعمل معا لنشر السلام.

ينتج تنافس القوى العظمى أحيانا نظاما دوليا مستقرا، كما حدث خلال الحرب الباردة، لكن القوى العظمى ستظل تبحث عن زيادة قوتها، وإذا سنحت فرصة فإنها لن تتردد في تقويض ذلك النظام المستقر، كما عملت الولايات المتحدة أواخر الثمانينيات على إضعاف الاتحاد السوفييتي والإطاحة بالنظام المستقر الذي انبثق في أوروبا أواخر الحرب الباردة. لكن ثمة سببين يحولان دون أن تلزم القوى العظمى نفسها بالسعي لبناء نظام عالمي يعمّه السلام:

أولا، من غير الوارد أن تتفق الدول على صيغة عامة لتعزيز السلام، بل إن دارسي العلاقات الدولية لم يتوصلوا إلى إجماع حول الخطوط العريضة لهذه الصيغة.

ثانيا، لا يمكن للقوى العظمى أن تضع القوة جانبا وتعمل لتعزيز السلام العالمي، لأنها لا تستطيع أن تتأكد من أن جهودها ستنجح، وإذا فشلت محاولاتها فربما تدفع ثمنا باهظا نتيجة لإهمالها توازن القوة.

قد يستنتج البعض أن نظرية ميرشايمر لا تفسح مجالا لأي تعاون بين القوى العظمى، لكن الدول يمكنها أن تتعاون، مع صعوبة حصول هذا، وصعوبة استمراره أيضا. وهناك عاملان يحولان دون حصول هذا التعاون؛ الزيادة النسبية في القوة، والقلق من الخيانة. ورغم موانع هذا التعاون فإن القوى العظمى تتعاون في الواقع، فكثيرا ما يدفعها منطق توازن القوة إلى التعاون وتكوين تحالفات ضد عدو مشترك.

twitter.com/Sharifayman86
0
التعليقات (0)

خبر عاجل