كتب

المقاومة الشعبية في فلسطين.. كيف تنجح ولماذا تفشل؟

كيف يمكن تحويل الاحتجاج الشعبي في فلسطين إلى أداة سياسية فاعلة في مواجهة الاحتلال؟
كيف يمكن تحويل الاحتجاج الشعبي في فلسطين إلى أداة سياسية فاعلة في مواجهة الاحتلال؟

الكتاب: الاحتجاج الشعبي في فلسطين.. المستقبل المجهول للمقاومة غير المسلحة
المؤلف: مروان درويش/ أندرو ريغبي
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية/2018

يستند الباحثان مروان درويش وأندرو ريغبي في تحليلهما لأسباب صعود المقاومة الشعبية الفلسطينية ضد الاحتلال، وفهم أسباب فشلها في تسجيل أي تقدم ملموس باتجاه إنهاء الاحتلال، إلى أفكار وأحكام الناشطين الفلسطينيين والمتضامنين معهم، حيث تضم صفحات كتابهما مقتطفات من مقابلات أجريت مع أكثر من مئة شخص من هؤلاء. 

وفضلا عن ذلك يستعين المؤلفان بمجموعة كبيرة من الأعمال البحثية والأدبيات العربية والأجنبية التي تتناول موضوع "المقاومة المدنية"، في محاولة لفهم وتفسير السياقات التي تنشأ فيها هذه المقاومة، وشروطها، ومآلاتها المتوقعة. وهي دراسات توافقت في معظمها على تعريفها بأنها " أسلوب لتحدي خصوم لا يتورعون عن استخدام العنف، ويلجأ فيه المدنيون إلى الاستخدام الثابت لأساليب هي بطبيعتها، في الغالب، غير عنيفة وغير مسلحة.. في سبيل تحقيق أهداف تلقى توافقا واسعا داخل المجتمع". 

ابتداء يعرض درويش وريغبي في المقدمة ثلاثة افتراضات أساسية متعلقة بديناميات المقاومة المدنية تتمثل أولا باعتماد الأنظمة القمعية، إلى جانب الترهيب وسلطة الإكراه، على اعتياد المواطنين على الطاعة، التي يؤدي كسرها إلى زيادة تكلفة فرضها بالنسبة للنظام. وثانيا تحديد وتقويض ركائز الدعم الرئيسية لنظام ما سواء كانت داخلية أم خارجية. وثالثا زيادة تكلفة سياسات النظام القمعية عبر أنشطة تهدف إلى إحداث ردات فعل من النظام قد ترتد عليه. 

ويضع الباحثان إطارا لوصف مختلف أشكال المقاومة"غير العنيفة" أو "غير المسلحة" على النحو التالي: المقاومة الرمزية التي يتم التعبير عنها من خلال إشارات أو تصرفات معينة تؤكد على الولاء للقضية، والمقاومة الجدلية من خلال التعبير عن الاحتجاج وحث الآخرين على مواصلة النضال، والمقاومة الهجومية التي تشمل الإضرابات والتظاهرات، والمقاومة الدفاعية التي توفر الحماية والمساعدة للمعرضين للخطر والهاربين، والمقاومة البنّاءة حيث تقام المؤسسات البديلة التي تجسد تطلعات الساعين إلى التحرر. 

لكنهما أيضا يشيران إلى مجموعة من الشروط أو الأوضاع التي يسهم توفرها في تقوية احتمال قيام حركة مقاومة مدنية غير مسلحة قادرة على الاستمرار وتحقيق أهدافها. من ذلك الشعور القوي بالتضامن لدى فئات الشعب كافة، بما يسمح بأوسع مشاركة ممكنة، ووضوح الأهداف القابلة لللتحقيق بحيث تحظى بتأييد واسع بين الناشطين والمواطنين، والقدرة على صوغ استراتيجيا واضحة مع جملة من الخطط التكتيكية وبرامج العمل، والقدرة على الحفاظ على التواصل داخل حركة المقاومة نفسها ومع الجمهور الأوسع، والقدرة على توفير مصادر للدعم الخارجي من أطراف حكومية وغير حكومية مع الحرص أن لا يقوض ذلك شرعية المقاومة.

مقاومة "هادئة"

يناقش الفصل الأول من الكتاب مسار المقاومة الفلسطينية غير المسلحة ضد مصادرة أراضي الفلسطينيين وتهديد مصادر رزقهم الذي فرضته الهجرة اليهودية قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية، في ظل الحكم العثماني ومن بعده الانتداب البريطاني، حيث يظهر تأثر هذه المقاومة منذ بداياتها بالتحزب والانقسام اللذين عكسا طبيعة التشرذم الذي عانى منها المجتمع الفلسطيني خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشروالنصف الأول من القرن العشرين، وهو عائق أدى إخفاق مصادر الدعم الخارجية إلى استفحاله، بحسب المؤلفان. وهي مقاومة شملت اشتباكات عفوية بين الفلاحين والمستعمرين الصهاينة، وامتدت لتأخذ أشكالا من الاحتجاجات الرمزية والجدلية، والمقاومة الهجومية والدفاعية، حتى انتهت إلى ثورة مسلحة في العام 1936، بعد أن عانى الفلسطينيون من غياب قيادة وطنية قوية وفاعلة قادرة على حمل مطالب والشعب وتوحيد تحركاته خلفها.

 

                        مشهد من المواجهات في الانتفاضة الأولى

في الفصل الثاني من الكتاب ينتقل البحث لمناقشة طبيعة المقاومة التي خاضها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1948، التي تدرجت من كونها مقاومة "هادئة" إلى احتجاجات مسموعة وحراك سياسي، حيث وجد الفلسطينيون أنفسهم أقلية تحت حكم احتلال عسكري شرس، فلجأوا، في إطار المقاومة "الهادئة"، لممارسات جماعية، بعيدا عن التوجهات الأيديولوجية أو التنظيم، تهدف إلى الحفاظ على مواردهم الضرورية بالاستحواذ "غير القانوني" على أراضيهم التي صودرت منهم، مثل الدخول خلسة وزراعة أرض حظر دخولهم إليها رسميا، أو بناء منازل دون الحصول على تراخيص. 

تحولت هذه المقاومة، خلال العقد الثاني من الحكم العسكري، إلى أشكال مسموعة وظاهرة أكثر من الاحتجاج، من خلال تشكيل حركات وأحزاب سياسية تمثل مصالح "الأقلية"، اكتسبت زخما كبيرا بعد حرب 1967، عندما تمكن الفلسطينيون في إسرائيل، بعد احتلال الضفة وقطاع غزة، من إعادة التواصل مباشرة مع أهلهم ومواطنيهم. وعلى مدى العقود التالية صارت هذه الأقلية أكثر إصرارا على الحصول على جميع حقوقها المدنية الكاملة داخل إسرائيل.

تقوية المقاومة

يتتبع الباحثان أنماط المقاومة المتعددة التي خاضها الفلسطينيون خارج إسرائيل بعد نكبة 1948، بما يشمل الفترة التي شهدت تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وتبني خيار الكفاح المسلح، الخيار الذي يرى الباحثان أنه قد أثبت "فشله الذريع"، وكان ذلك سببا في انطلاق الانتفاضة الأولى غير المسلحة، التي ينظر الفلسطينيون إليها "بمزيج من الإعجاب والندم، بعد أن تلاشت الآمال التي علقت عليها" عقب الدخول في مرحلة ما يسمى "عملية أوسلو للسلام"، التي فشلت بدورها، وكانت سببا في اندلاع الانتفاضة الثانية، وهي بحسب الباحثان أيضا، فترة من العنف والرعب وفرت البيئة التي أتاحت لإسرائيل إيجاد مبرر لبناء جدار الفصل العنصري، ما أتاح لها الإمعان في قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية. 

يلفت الباحثان إلى أنه منذ توقيع اتفاق أوسلو ازدادت "الانقسامات السياسية والجغرافية والاقتصادية داخل المجتمع الفلسطيني، ما أدى إلى تقويض مستوى التضامن الاجتماعي والثقة الضروريين لتعبئة المدنيين وإشراكهم على نطاق واسع في المقاومة. وبدلا من الشبكة الكثيفة من المنظمات الأهلية التي وفرت حاضنة للانتفاضة الأولى، باتت تتولى نشاطات العمل المدني منظمات غير حكومية تعمل بتمويل خارجي، وذات روابط ضعيفة نسبيا بالقاعدة الشعبية. كذلك فإن ضعف السلطة الفلسطينية والتنافس السياسي بين حركتي "فتح" و"حماس" أدى إلى انعدام التنسيق السياسي الضروري للتعبئة الجماهيرية".

مع ذلك فإن بناء الجدار استفز حركة مقاومة شعبية شملت التظاهرات الاحتجاجية والمواجهات، التي صاحبها تواجد كبير للناشطين الأجانب والإسرائيليين الذين يرافقون الفلسطينيين كشهود على ما يجري، وحركة توثيق ومناصرة باستخدام القانون الإسرائيلي نفسه. لكن هذه المقاومة ظلت محصورة في أماكن محددة ولأوقات قصيرة، وجاءت كردة فعل على تهديدات فورية ، ولم تنجح في التحول إلى فعل مقاومة جماهيري.  

عندما سأل الباحثان ناشطين فلسطينيين عن التحديات التي يواجهونها من أجل تقوية المقاومة الشعبية أوردوا قائمة طويلة تركز معظمها حول الانقسام السياسي بين "فتح" و"حماس"، وعدم توفر استراتيجيا متماسكة، وغياب التنسيق بين شبكات الناشطين المتنافسة فيما بينها، والشعور السائد بانعدام الثقة بالقيادة على المستويات كافة. يقول الباحثان أن هذا التشكيك في دوافع الناشطين الذين يضطلعون بأدوار قيادية على المستوى المحلي، شرح نقطة ضعف رئيسية في المقاومة الشعبية وهي ضعف نسبة المشاركة في الفعاليات. 

مصالحة وتعبئة

تحت عنوان"نحو سيناريو الأمل" يقول الباحثان إن التحدي الذي يواجه الفلسطينيين يكمن في تطوير استراتيجيا للمقاومة ترسم دورا للجميع، بغض النظر عن انتمائهم الجنسي وقناعاتهم السياسية ومكان عيشهم وعمرهم. وفي صميم هذه الاستراتيجيا لا بد من قيادة سياسية تتحلى بالتزام ثابت بالبناء على تجربة المقاومة الشعبية خلال فترة ما بعد الانتفاضة الثانية، بهدف إيجاد وضع لا يمكن للاحتلال أن يستمر فيه كالمعتاد. 

هذا يتطلب "خلق وضع" يصبح فيه الثمن المالي والإنساني والدبلوماسي الذي تتحمله إسرائيل في مواصلة الاحتلال عبئا متزايدا، ويصبح فيه العنف الذي تمارسه إسرائيل ظاهرا أكثر لقطاعات كبيرة من المهتمين حول العالم، وعامل إحراج لممارسة ضغوط أكبر عليها.

 

ولتحقيق كل ما سبق لا بد من تعميق عملية المصالحة السياسية بين "فتح و"حماس" والاتفاق على حملة دبلوماسية لإنهاء الاحتلال موجهة للمجتمع الدولي، والاعتراف بأن حركة مقاومة شعبية قوية يمكن أن تكون رافعة مهمة في هذه الحملة. ولا بد للفصائل الفلسطينية من استخدام مواردها التنظيمية لتعبئة الناس من أجل المقاومة الشعبية، بحيث تشعر شرائح المجتمع الفلسطيني كلها في الداخل والخارج أن لها دورا تضطلع به في النضال لإنهاء الاحتلال، ولا بد من تطوير وسائل للمقاومة تفرض تكاليف كبيرة اقتصادية ومالية واجتماعية ودبلوماسية على إسرائيل. فضلا عن أن جزءا مهما من هذه الحملة يجب أن يقوم على التنسيق مع النشطاء والمتضامنين في كل مكان.


التعليقات (0)