آراء ثقافية

مائة عام من الفشل

جيتي
جيتي

قد لا تكون هناك علاقة ظاهرة، وواضحة، بين ما سأكتبه، تاليا، وبين رواية "مائة عام من العزلة"، رائعة غابرييل غارسيا ماركيز (1927- 2014)، التي نشرها عام 1967، فقلبت فن السرد في العالم رأساً على عقب، ومنحت مؤلفها جائزة نوبل للآداب، وترجمت إلى عشرات اللغات في العالم، من بينها العربية، وقد يكون الزمن الذي أرصد فيه "الفشل" أزيد قليلا عن المائة، لكنني، أيضا، لست واثقا من انعدام العلاقة، ولا أرى في السنوات المزادة دلالة تذكر.

فقبل ثلاثة أيام كنت؛ وبالتوازي، تقريبا، أقرأ مقالا للدكتورة منى أبو سنة، أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة عين شمس، والأمينة العامة لمنتدى ابن رشد للتنوير، حمل عنوان "مرحبًا بقرار الرئيس"، بينما كنت أبحث عن تدقيق لمعلومة وردت في دراسة للدكتور عبد الله خطاب، بعنوان "أعيان مديرية أسيوط" (1882- 1919)، دراسة في التاريخ الاجتماعي، فخطر العنوان فورا برأسي، وثبته.

كانت الدكتورة أبو سنة، كما كتبت في "المصري اليوم"، ترحب "بقرار الرئيس عبدالفتاح السيسي الذى طال انتظاره، وهو طرح مسألة التعليم برمتها، مع التركيز على مرحلة الثانوية العامة وامتحاناتها في حوار مجتمعي بما يشتمل عليه من متخصصين وغير متخصصين في مجال التعليم، جنبًا إلى جنب مع أولياء الأمور والطلاب"، وكانت المعلومة موجودة في العنوان الفرعي "التعليم"، حيث ذكر الدكتور خطاب أن التعليم العام "قد نال نصيبا من اهتمام الأعيان داخل الجمعية العمومية (المجلس التشريعي) ففي 23 مارس عام 1907، تقدم محمود باشا سليمان باقتراح يقضي بوجوب جعل تعليم العلوم باللغة العربية في المدارس الابتدائية والثانوية بدلا من اللغة الإنجليزية؛ لأن هذه اللغة بصفتها لغة البلاد يجب أن يتعلمها الطلبة حق التعليم، وأكمل ما يكون ذلك إذا درسوا بها العلوم"، وهكذا انعقدت المقارنة، وتحدد الإطار الزمني، وإليكم أسباب الحكم.


بداية أتفق مع ما افتتحت به، أبو سنة، مقالها، فقرار السيسي ذاك، كما ذكرت نصا، هو "اعتراف ضمني بأن سياسة وزارة التربية والتعليم، وعلى قمتها الوزير الدكتور طارق شوقي، قد انحرفت عن المسار الذى كانت تنشد أن تسير فيه، والذى يقوم على بث الإبداع في التعليم عامة، وفى الامتحانات على وجه الخصوص، واستسلمت واستكانت إلى الجانب التكنوقراطي المحصور في الأجهزة مما انزلق بها إلى امتحانات "الاختيار من متعدد"، التي تكرس الحفظ والتلقين وتمحو التميز والتفرد اللازمين للإبداع، لتعود المسائل كما كانت عليه في نسق التعليم السابق تعتمد على الحفظ والتلقين والتذكر"، لكني أذكرها ببضع وقائع تنبأ بأن مصير القرار سيكون كسابقيه.

ذلك أن السيسي قرر من قبل، والوزراء بدورهم فعلوا، ولا نتيجة تذكر، ولا نتوقع منهم غير ذلك.

البداية كانت في جلسة ضمن المؤتمر الوطني الأول للشباب، المنعقد في مدينة شرم الشيخ، نوفمبر 2016، وبعده بأيام عقدت وزارة التعليم العالي "ورشة للحوار المجتمعي لتطوير التعليم"، شاركت فيها قيادات جامعية من مختلف الجامعات المصرية، وبعدها بعام، بالضبط، قال الدكتور طارق شوقي، وزير التربية والتعليم الفني: "إن الرئيس عبد الفتاح السيسي مهتم بوجود حوار مجتمعي حول تطوير التعليم، وتوعية أولياء الأمور".

 قرار "الحوار المجتمعي" موسمي، إذن، متكرر منذ خمس سنوات على الأقل، ومتكرر أيضا، التصريح بالمخالفة الصريحة لنصوص الدستور، ففي نفس التصريح أكد، الدكتور شوقي: "أن ميزانية الوزارة بعيدة عن الاستحقاق الدستوري، وهو 4% وفق المنصوص عليها في الدستور"، وهكذا تظهر بوضوح فج الواقعة الرئيسية في المسالة التعليمية: الدولة، أي: رئيس الجمهورية، ومجلسي النواب والشورى، والحكومة، والوزارة، وكل المؤسسات "السيادية والرقابية والدستورية" تواصل ضرب النص الدستوري، الواضح والمحدد للغاية، بعرض الحائط، أو بتعبير أكثر دقة ومباشرة: وضع الدستور تحت حذاء كل مسئول. هذه هي الواقعة الرئيسية، وما بعدها تفاصيل.


الواقعة الرئيسية في التعليم في مصر هي مخالفة نصوص دستورية قاطعة، فهناك في الدستور المصري الذي عُمل به من يوم 19 يناير 2014، نقرأ في المادة (19) ضمن "الباب الثاني: المقومات الأساسية للمجتمع- الفصل الأول: المقومات الاجتماعية"، الفقرتين التاليتين: "والتعليم إلزامي حتى نهاية المرحلة الثانوية أو ما يعادلها، وتكفل الدولة مجانيته بمراحله المختلفة في مؤسسات الدولة التعليمية، وفقاً للقانون. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم لا تقل عن 4 %من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية".

ونقرأ في المادة (21) من نفس الباب والفصل، الفقرة التالية: "وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم الجامعي لا تقل عن 2 %من الناتج القومي الإجمالي تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية".

أما في باب الحكام الانتقالية، فنقرأ ضمن المادة (238) الفقرتين التاليتين: "تضمن الدولة تنفيذ التزامها بتخصيص الحد الأدنى لمعدلات الإنفاق الحكومي على التعليم، والتعليم العالي، والصحة، والبحث العلمي المقررة في هذا الدستور تدريجياً اعتباراً من تاريخ العمل به، على أن تلتزم به كاملاً في موازنة الدولة للسنة المالية 2016/2017. وتلتزم الدولة بمد التعليم الإلزامي حتى تمام المرحلة الثانوية بطريفة تدريجية تكتمل في العام الدراسي 2016/ 2017".

يبقى أن نذكر من الفقرة الأولى من المادة (144) من الدستور: " يشترط أن يؤدي رئيس الجمهورية، قبل أن يتولى مهام منصبه، أمام مجلس النواب اليمين الآتية "أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصًا على النظام الجمهوري، وأن أحترم الدستور والقانون، وأن أرعى مصالح الشعب رعاية كاملة، وأن أحافظ على استقلال الوطن ووحدة وسلامة أراضيه".

أما الواقع فيؤكد أن السيسي في الجلسة الأولى لمؤتمر الشباب المنعقد بمدينة شرم الشيخ (2016)، المنعقدة تحت عنوان "التعليم المدمج.. رؤية جديدة للتعليم"، جمع هذه النصوص المتعلقة بالتعلم، الموجودة في الدستور، الذي أقسم بالله أن يحترمه، وداسها بحذائه، أي في اللحظة التي كان يجب عليه أن يُلزم الحكومة بتنفيذ الحدود الدستورية الملزمة حول تخصيص حد أدنى للإنفاق الحكومي على التعليم (العام والعالي).

ما رغبت في أن تفعله الدكتورة أبو سنة، بعد ترحيبها بقرار السيسي، أن تتذكر أنه قال في ذلك المؤتمر "اللي في مصر دول أولادي وعاوزهم أحسن ناس في الدنيا"، فأطفالنا ليسوا "أولاده"، حتى على سبيل المجاز، فهذه ترسيخ لقيم "أبوية" منكرة، وضد أي مفهوم حديث عن علاقة الحاكم بالمواطنين.

ورغبت أيضا في أن تتذكر أنه لا يصح مطلقا، وضد أي منطق علمي، أن يقول السيسي: "واحد + واحد يساوي، اتنين، أنا مش عايز واحد + واحد يساوي اتنين، أنا عايز واحد + واحد يبقي تلاتة يبقي خمسة ويبقي سبعة ويبقي تسعة"، حتى ولو على سبيل المجاز.

ورغبت أيضا من الدكتورة أبو سنة أن تتصور خطورة ما يرمي إليه السيسي، حين يذكر أن "هناك دولة قالت إن التعليم سيكون لمرحلة إعدادي فقط مجانا ووصلت هذه الدولة بتقدمها الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي وبقية مراحل التعليم بتكلفته على الأسرة ثم قالوا إن التعليم الثانوي سيكون أيضا مجاني، ودولة قالت لأ، أنا هعمل طبقة متعلمة تعليم راقي جدا، وباقي المجتمع مش مهم، والطبقة دي هتقود المجتمع وتاخده لقدام وتعمل نهضة، والنهضة تجيب قدرة، والقدرة أقدر أوظفها بعد كده لبقية الناس، أقدر أعمل كده في مصر ولا لأ؟".

فعلت، الآن، ما رغبت في أن تفعله الدكتورة أبو سنة، وأنا أتوجس من دعوة السيسي لحوار مجتمعي عن التعليم بعد فشل الدكتور شوقي المنقطع النظير، لأنه طريقة الجمع الخطأ التي يرغب فيها قد تفضي إلى نموذج من تلك التي ذكرها: تعليم إعدادي (مجاني) وفقط، أو لا مجانية مطلقا، وتوفير تعليم عال راقي".


وأعود للوراء أكثر من مائة عام، وأتابع دعوة محمود باشا سليمان بوجوب جعل تعليم العلوم باللغة العربية في المدارس الابتدائية والثانوية بدلا من اللغة الإنجليزية، فالدكتور خطاب يخبرنا؛ في دراسته، أن الحكومة لم توافق على هذا الاقتراح "وتبنى سعد باشا زغلول باعتباره ناظر المعارف وجهة نظرها فيه، حيث أوضح أن الحكومة لم تقرر التعليم باللغة الإنجليزية بمحض رغبتها، ولكنها فعلت ذلك مراعاة لمصلحة الأمة، وأشار إلى أنه إذا فرضنا أنه يمكننا أن نجعل التعليم من الآن باللغة العربية وشرعنا فيه فعلا، فإننا نكون قد أسأنا إلى بلادنا وإلى انفسنا إساءة كبيرة؛ لأنه لا يمكن للذين يتعلمون على هذا النحو أن يعملوا في الجمارك والبوسطة والمحاكم المختلطة والمصالح العديدة المختلفة التابعة للحكومة، والتي يقتضي نظامها وجود كثير من الموظفين من ذوي المعرفة بإحدى اللغات الأجنبية حق المعرفة، ولا أن يستخدموا في بنك أو مصرف ولا أن يشاركوا في شركة من الشركات الأجنبية التي كثر تأسيسها الآن في بلادنا، ولا أن يكونوا محامين أمام المحاكم المختلطة ولا مترجمين، ولا غير ذلك من كل ما يحتاج إلى البراعة في لغة أجنبية وهو كثير جدا في بلادنا".

هذا رأي سعد زغلول في عام 1907، وهو نفسه، وهو غيره في الوقت ذاته، زعيم الأمة الذي قادها في ثورتها الكبرى (1919)، وكان وعيه قد تغيير، وكذلك الظروف العامة، ووعي المواطنين، الأثرياء والفقراء معا.

ويشير الدكتور خطاب إلى أن "اللغة الإنجليزية غدت لغة التعليم منذ عام 1897، ثم أصبحت لغة الدواوين الأساسية. وكان معظم الأساتذة في المدارس المصرية من الإنجليز، وكانت العلوم كلها خلا اللغة العربية تدرس بالإنجليزية"، بعدما كان تعليم العلوم باللغة العربية في المدارس الحكومية، لأكثر من ثمانين عاما، وبخاصة منذ أنشأ محمد على في سنة 1837 ديوان المدارس. ثم يذكر "إن تيار الرأي العام كان أقوى مما جعل الإنجليز يتراجعون ويصرحون بأن إحلال اللغة الإنجليزية محل العربية هو إحلال مؤقت حتى يتوفر العدد الكافي من المصريين الأكفاء لتدريس العلوم الحديثة، وكذلك الكتب العربية. وقد بدأت اللغة العربية تعود تدريجيا إلى مكانها كلغة تدريس بدءا من عام 1907، وما وافى عام 1915 حتى كانت اللغة العربية هي لغة التدريس في مدارس المرحلتين معا".

نحن، إذن، ننتظر أحد أمرين: أن يقوى تيار الرأي العام، أو ....

وقد نعود لبحث الأمر بمجمله عن قريب.

التعليقات (1)
نسيت إسمي
السبت، 28-08-2021 08:10 ص
تخيل أن تجلس بقاعة لتتعلم من خلال شاشة ناطقة تشرح لك الدرس، وتوضح لك البيانات والأمثلة بطريقة عرض شيقة وسحرية، فتجذب انتباهك وتحبب إلى قلبك العلم، وتصير شغوفاً به، وتسودك رغبة بالحصول على المزيد من المعرفة. إن هذا هو ما تسعى إليه الأمم، بعد عصر "السبورة والطبشورة"، إذ تطورت التكنولوجيا وأصبح التعليم المحوسب باستخدام الحاسوب أمراً ضرورياً لسير العملية التعليمية، مع استخدام تقنيات العرض المتوفرة؛ مما يسهل على الطلبة فهم الدروس ومختلف المناهج. لهذا تخصص بعض الحكومات ميزانية مالية ضخمة، لتحقيق الهدف المرجو من تطوير عملية التعليم، فاليابان أكثر دول العالم تقدماً اعتمدت استراتيجية تعليمة تقوم على التدريب والتفكير بدلاً من النقل والحفظ، كما أتاحت لطلبتها فرص التجريب وصولاً لتعليم صحيح، ووفرت لهم المختبرات اللازمة لذلك، ونوعت آلية تلقي التعليم، فهناك التعليم طول الوقت، وهناك التعليم بوقت جزئي، وتعليم عن بعد أو بالمراسلة، كما خصصت التعليم الإجباري للمرحلة الابتدائية فكل أب وأم يروا بأنهم ملزمون بإرسال أبنائهم إلى المدرسة وفق القانون، كما تساعد الدولة الطلاب الذين يرغبون بإكمال دراساتهم في مجال معين يرغبون به، لكنهم لا يملكون المال. وتغلبت اليابان على الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وبريطانيا، في نسبة الطلاب المتفوقون في العلوم والرياضيات، ويعرف الطالب الياباني الذي يبلغ الرابعة عشر من عمره ما يعرفه الطالب الأمريكي البالغ ثمانية عشر من عمره. واعتبرت اليابان الإنسان مورد بشري يجب تنميته واستغلاله وانباته في بيئة حسنة، لهذا خصصت جزء كبير من ميزانية الدولة لقطاع التعليم، في الوقت الذي لم تشجعها فيه دول أخرى، لكنها حصدت عقول يانعة؛ فأظهرت اقتصاد قوي وصناعة عالمية، وأصبحت تقود العالم باختراعاتها المتتالية. أما في الوطن العربي فإن عملية تطوير التعليم في بدايتها، حيث تخصص الدول العربية معظم ميزانياتها للعتاد الحربي والسلاح والجيوش، دون إعطاء جانب التعليم حقه، وغالباً يخرج مواطنو الدول العربية لطلب العلم من الدول الأجنبية، وذلك لتوافر احتياجاتهم المعرفية خارج إطار دولتهم الأصلي. وتشكوا البنية التعليمية في الوطن العربي من ازدياد عدد الطلاب وقلة الأماكن الدراسية، وفوضى المناهج الدراسية، وأحياناً صعوبتها وعدم ملاءمتها للتدريس، وعدم الاهتمام بتطوير وتنمية الكادر التدريسي، مما يثقل كاهل العملية التعليمية. أما البحث العلمي في الدول العربية ضعيف، ولا يوجد له قيادة أو احتضان ولا تمويل ولا ميزانية محددة، وضعف روح التعاون بين الباحث والمراكز البحثية، وعدم استمرارية التراكم المعرفي، وانعدام الصلة بين الباحث وثقافة المجتمع. وكما لا يوجد اهتمام بعملية الإبداع والمبدعين، حيث يقتصر التعليم على الطابع التقليدي، دون وجود الكثير من الأنشطة اللامنهجية، وإن وجدت فهي قليلة جداً لا تكاد تذكر بالنسبة لدول غربية أخرى. ويبقى الأسلوب التعليمي هو أساس سير العملية التعليمية سواء كان متطور والكتروني، أو تقليدي قاصر، ويأمل الكثير من طلبة العلم بالحصول عليه بطريقة حديثة ومتطورة وجذابة