أفكَار

مفكر جزائري: أدعو الإعلاميين المتدينين للتوبة إلى الله

محمد بغداد: الخطورة على العالم الإسلامي ما بعد نهاية الوهابية- (عربي21)
محمد بغداد: الخطورة على العالم الإسلامي ما بعد نهاية الوهابية- (عربي21)

من أبرز العبارات القوية في هذا اللقاء مع الباحث الجزائري الدكتور محمد بغداد، مدير التوثيق والإعلام بالمجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر، دعوته النخب الدينية في المجال الإعلامي للتوبة إلى الله بسبب ما اعتبره "المعاصي الإعلامية التي يرتكبونها"، ولعل أهمية هذه الدعوة أنها جاءت من متخصص في هذا المجال تحديدا وصاحب كتب "الإعلام الديني في الجزائر، الخطاب والهوية"، و"أزمة المؤسسة الفقهية في الجزائر"، و"إنتاج النخب الدينية في الجزائر"، و"موجة الإعلام الجهادي"، و"صناعة الرسالة في الإعلام الديني" و"الأزمة الإعلامية للمؤسسة الدينية" وغيرها.

غير أن ما يثير الشجن أكثر في حوار الدكتور محمد بغداد مع "عربي21"، الذي تعدى منتوجه الفكري ما ذكرناه إلى مجالات بحث أوسع (منها كتب: "صناعة القرار السياسي في الخلافة الراشدة"، و"الدولة والمجتمع في المغرب الإسلامي"، و"حوارية النص والفقيه"، و"من الفتنة إلى المصالحة"، و"الفتوى الفقهية في زمن الثورات العربية"، و"سلطة المقدس، الإنسان والتاريخ في الخطاب الديني"، و"دماء الصحراء، حروب القاعدة في الساحل الأفريقي"،...الخ). هو هذه النتائج المؤلمة التي تتجاوز دائرة فشل النخب الدينية أو الإسلامية في المجال الإعلامي، إلى ما هو أوسع وأخطر في واقعنا العربي والإسلامي، والتي منها فشل النخب الدينية (الإسلامية) وكذا النخب العلمانية معا، في إيجاد هوية لذاتها، كونها صارت جميعا رهينة مخابر الغرب، الذي تمثله اليوم امبراطوريات إعلامية ضخمة ومراكز استشراف و"استشراق جديد"، تمكنت ليس فقط من تطويع النخب الحاكمة والمثقفة في أوطاننا العربية بجميع توجهاتها، وبالتالي جعلت من واقعنا اليوم أقرب إلى وضعية "زمن حكم الطوائف"، وإنما ورطت حتى الشعوب نفسها في عمليات التدمير الذاتي، حيث تقوم قطاعات واسعة من تلك الشعوب بعمليات "هي أقرب إلى الانتحار بدون أن تدرك عواقبها، حيث يتم التحكم في عواطفها وتحريك سلوكاتها دون إرادة منها".


وفي ما يأتي الجزء الأول من هذا الحوار:

س ـ رغم الجودة العلمية والفكرية العالية للكتاب الجزائري، وما تقدمه أنت مثال على ذلك، فإنه في المقابل لا يحظى بالترويج اللازم عربيا ودوليا، أين الخلل؟


 ـ المتداول في عالم اليوم أن كل منتوج هو علامة تسويقية وأداة هيمنة للمجتمع الذي يصنعه، وفي آخر إحصائيات المنظمات الدولية، يأتي التأكيد أن الأرباح المالية الضخمة للدول الكبرى تأتي من المنتوجات الثقافية، التي تفطنت إلى الأهداف التي تحققها الصناعات الثقافية سواء في الجوانب الاقتصادية أو المجالات الفكرية التسويقية لثقافة البلد.

وحسب المؤشرات المتوفرة ـ خاصة في المعارض الدولية للكتاب ـ فإن الكتاب الجزائري يحتل الصدارة من حيث الجودة العلمية والصلابة الفكرية، وهو ما يجد الاقبال عليه في هذه المعارض وبالذات من طرف الجامعات ومخابر البحث العلمي.

ولكن لحد الآن لم تتوفر للكتاب الجزائري مقومات النجاح ـ التسويقية المناسبة ـ بداية من الميادين الإعلامية التي تجعل من الموضوع الثقافي مجرد أخبار تختتم بها نشرات الأخبار أو صفحات تكتمل بها الجريدة أو فضائح وصراعات في الفضاءات الإلكترونية، مرورا بغياب مؤسسات صناعة المنتوجات الثقافية، وصولا إلى انعدام الاستراتيجية التي تكفل للمنتوجات الثقافية إمكانية الوصول إلى الفضاءات الدولية، ونتمنى أن يكون برنامج عمل الحكومة القادم متضمنا لتعاون حقيقي بين وزارات الخارجية مادامت أصبحت وزارة الخارجية والجالية الوطنية ووزارة الثقافة والفنون، ووزارة التجارة ما دامت أنها أدرجت ترقية الصادرات، حتى يمكن الكتاب الجزائري من الوصول على الأقل إلى الجالية الوطنية في مختلف مناطق العالم، وأن تتحول دور النشر الجزائرية إلى مؤسسات صناعية استثمارية حقيقية تساهم في التنمية الوطنية. 


س ـ ما هي برأيك الملامح والتمظهرات الفكرية لخطاب الإعلام الديني في العالمين العربي والإسلامي؟


 ـ تقييم أي خطاب يتطلب أمرين أساسيين: أولهما أهداف هذا الخطاب وثانيا آليات اشتغال هذا الخطاب، وهنا تبرز مشكلة عويصة تتمثل فيما هو أهم من الأمرين السابقين والمتمثلة أساسا في تلك الخلفية الفكرية التي يقوم عليها هذا الخطاب، وما دام الخطاب الإعلامي الديني لا يقوم على خلفية فكرية ذاتية "من الفكرة إلى التسويق"، فإنه يبقى رهينة الجهات التي تتحكم في محتواه سواء المخابر الغربية التي تسيطر على آليات اشتغاله وأساليب عمله، أو الأطراف التي تديره محليا، وتسعى إلى الاستثمار فيه لصالح توجهاتها وتبرير قراراتها.

ولعل الأزمات السياسية والاجتماعية والثقافية التي نعيشها يوميا تبرز الحالة المزرية التي تجلب الشفقة للخطاب الإعلامي الديني وفي كثير من الأحيان اشمئزاز المواطن منه وفي أحسن الأحوال الإهمال لمضامينه، وقد انجزت مؤخرا دراسة حول السلوك الإعلامي للمؤسسة من جائحة كورونا وقفت فيها على الحالة المؤلمة والبائسة إعلاميا لهذه المؤسسة تجاه هذه الجائحة التي تمثل نموذجا للوضعية التي يعيشها الخطاب الإعلامي للمؤسسة الدينية.

س ـ ما دلائل تراجع مضامين الإعلام الديني حاليا من ناحية الجدية والجودة مقارنة بالمراحل الأولى من ظهوره؟ وهل يمكن أن يكون لهذا النوع من الإعلام مستقبل حقيقي في ظل التطورات المتسارعة والاتجاه نحو العولمة وتراجع الخصوصيات الثقافية؟


 ـ المعروف في عالم الاتصال أن كلمة "مستقل" لا مكانة لها إلا في عالم المثل والنطريات، بينما الواقع يؤكد أن الممارسة الميدانية للإعلام هو ارتباطه بالجهات التي تموله وتتحكم في مضامينه ومحتواه، والإعلام الديني نوع من أنواع الإعلام يخضع لما تمليه الجهات الممولة والمهيمنة على مؤسساته، ونظرا لطبيعة المجتمعات الشرعية فإن مساحات الاستهلاك لمنتوجات الإعلام الديني واسعة وكبيرة، وهي مرتبطة بالحالة الشعورية والطبيعة العاطفية لهذه المجتمعات.

وقد تنبهت الكثير من الدول والجهات إلى هذه الخاصية المهمة فسارعت إلى الاستثمار فيه من أجل تحقيق أهدافها، ونحن إلى غاية اليوم لم نتفطن إلى هذه الأهمية، والدليل ما تضعه الكثير من الامبراطوريات الإعلامية اليوم من استثمارات ضخمة في هذا الميدان، ولكن نحن ما زلنا نعمل على تكريس الاشمئزاز والدفع باتجاه نفور المواطن من محتوى الإعلام الديني، الذي يمكن أن يقدم خدمات استراتيجية للمجتمع إذا توفرت الرؤية السليمة والاستراتيجية الذكية ووجدت النخب البارعة في التنفيذ.

س ـ في ظل تراجع وانهيار الوهابية في معاقلها الأصلية، هل ما زال لهذا التيار قوة الحضور والسيطرة في الإعلام الرسمي وغير الرسمي في الجزائر وغيرها؟


 ـ المشكلة اليوم تكمن في النتائج الخطيرة لما بعد انهيار "الوهابية" وما تم التراجع عنه من أدبياتها وكبح توجهاتها في موطنها الأصلي، إلا أن ذلك لا يتم الانتباه له، ونحن للأسف إلى اليوم لم نتمكن من بناء ممارسة إعلامية في الجانب الديني تكون ملامحها منسجمة مع معطيات ثقافتنا المحلية وخصائص تجربتنا الذاتية واعتقادي أنه يتوجب على النخب الدينية في المجال الإعلامي التوبة إلى الله، والكف عن ارتكاب المعاصي الإعلامية، والتوجه إلى المسار المناسب من خلال القيام بالواجب الشرعي والمطلوب الوطني في حماية الشعب من المخاطر المتوقعة.

القضية اليوم تتطلب تحمل المسؤولية الدينية والوطنية عبر التوجه نحو انتاج محتوى إعلامي ديني ينسجم مع "مقاصد الشريعة" وينبع من تجربتنا الإعلامية التاريخية ويبرز هويتنا الإعلامية المحلية، وأن تكون لدينا رؤية إعلامية علمية وموضوعية منطقية شاملة تراعي المصالح العليا للوطن، يعمل على تنفيذ استراتيجيتها نخبة جادة وفعالة، وتحتويها مؤسسات إعلامية حقيقية بعيدة عن المزاجية والترهل والضعف "فالمؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف". ولعل هذا الأمر يؤخذ في الجهود المبذولة في ورشات تعديل قوانين الاتصال والممارسة الإعلامية التي تعمل عليها الحكومة في الجزائر هذه الأيام.

س ـ غياب مرجعية فقهية قائمة بذاتها في الجزائر اليوم، أدى إلى ظهور أزمة إفتاء حقيقية وعدم قدرة على تعيين "مفتي الجمهورية" كما بقية الدول الإسلامية وحتى المغاربية (الزيتونة والقرويين وشنقيط والأزهر ...الخ).. هل يعود ذلك إلى قرار سياسي أم لعملية تغييب مقصودة لعلماء البلد لصالح مرجعيات وافدة من المشرق؟


 ـ مصطلح "المرجعية" صناعة إعلامية "ظهر عندنا منذ سنوات قليلة" استحسنه الفاعلون في المشهد الفقهي، وبقي متداولا في المناسبات دون أن يتم تحويله إلى مشروع حقيقي يمتلك القدرة على إدارة المشهد الفقهي الجماعي، والأمر يتعلق بالحاجة الجماعية لمثل هذه المشاريع وهي الحالة التي جعلت من "عدم القدرة" راجعة بالأساس إلى الحالة الثقافية الكلية للبلاد التي تنازعتها رغبات انتماء التيارات الفاعلة في الفضاء الجماعي، فنحن شعب ينتمى إلى تجربة فقهية تاريخية في الفضاء المغاربي تميزت عن غيرها من النماذج الشرقية، فتجربتنا نزاعة إلى المنحى الاجتماعي وعدم الهيمنة السياسية المباشرة على الفضاء الديني عموما، وهي التجربة التي لم تتمكن النخب الفقهية والسياسية من إدراك فاعليتها والأهمية الكبرى التي تحتلها في إدارة الفضاء الاجتماعي العام.

إن تجربتنا الفقهية التاريخية امتلكت عبر التراكم الزمني الكثير من الأدوات التي ساعدتها على إنجاز توليفة خاصة بها، ونتج عنها الكثير من الآليات التي تمكنها من التجسيد ميدانيا، وهو ما نجده في منتوج المؤسسات التي شيدتها النخب" مازونة ـ كونتا ـ توات ـ بجاية ـ ميزاب....."، كما ساهمت عمليات "بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال ومشاريع التحديث"التي قادتها نخب لا تمتلك الرصيد الكافي "الفكري والسياسي" في بناء وإدارة الدول في تعميق عدم الانسجام والاضطراب الذي نجده اليوم ونجد تجسيداته في التداول الإعلامي اليومي، دون أن نكون مدركين تماما لمدلولات المصطلحات التي نستعملها يوميا دون أن ندرك أبعادها ومضامينها.

س ـ التراجع في إنتاج العالم الفقيه أو المجتهد أو المجدد، الذي يكون من أدواره النظر والتفكير في بنية المذهب، وليس فقط الحديث في الجزئيات الحياتية البسيطة، هل هو حالة جزائرية فريدة أم إنه يشمل كل الأمة ولماذا؟


 ـ إذا أردنا أن نكون أقرب إلى مقصود سؤالك فإننا بحاجة إلى تحديد مفهوم "الفقيه"، فنحن نعيش إزدواجية بارزة بين التصور التقليدي لمفهوم الفقيه وبين الرغبة في النموذج الذي نريده اليوم، كون المساحة التي كان يحتلها الفقيه في الفضاء العام قديما تقلصت اليوم بمزاحمة فاعلين آخرين بحكم التغير الحاصل، وما صاحبه من تخلى الفقيه عن مساحته تحت تأثير صدمته من هذا التغير، لأنه لم ينتج من الخطاب والمضامين ما يوفر مبررات وصلاحية تؤهله للحفاظ على مساحته في الفضاء العام.

كما أن الحاجة إلى "الفقيه"المتصور في ذهنيتنا الجماعية لم تعد قائمة وليست ملحة كوننا نحل مشاكلنا ونسير أمورنا بأدوات ووسائل وأساليب أخرى لا يمتلكها "الفقيه" الحالي، زيادة على ذلك فإن المنظومة التعليمية لا تضع في أهدافها صناعة وإنتاج "الفقيه"، كون النخب المسؤولة عن الشأن العام لا يوجد في حساباتها الحاجة إلى الفقيه، لأنها نخب تستند على الرؤية المشوهة للعلمانية، التي تريد أن تجسدها في مناخ اجتماعي متصادم تماما من المناخات التي ظهرت فيها العلمانية. 


التعليقات (0)