قضايا وآراء

هل هو تصحيح للمسار أم مرحلة توافقية جديدة بتونس؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
بعد قرارات الرئيس قيس سعيد يوم 25 تموز/ يوليو، تجنبت العديد من القوى الإقليمية والدولية وصف الإجراءات الرئاسية بـ"الانقلاب"، وتراوحت مواقفها بين الدعم المطلق لقرارات الرئيس قيس سعيد (مصر، البحرين، الإمارات، السعودية)، وبين إبداء القلق والدعوة إلى العودة للشرعية الدستورية وفتح مجلس النواب "المجمّد" (أمريكا، الاتحاد الأوروبي، تركيا، ليبيا، الجزائر). ولكنّ الداخل التونسي شهد انقساما عميقا بين المؤيدين لتلك القرارات باعتبارها "تصحيحَ مسار" وبين الرافضين لها باعتبارها "انقلابا" على الدستور، خاصة الفصل ٨٠ منه.

وبعد مضي أكثر من عشرة أيام على بدء الحالة الاستثنائية التي أراد الرئيس قيس سعيد فيها جمع السلطات الثلاث - بما فيها السلطة القضائية - ثم تراجعه عن رئاسة النيابة العمومية بعد رفض المجلس الأعلى للقضاء هذا القرار، لا نرى في إجراءات الرئيس - وهي إجراءات من المفترض فيها أن تحارب الفساد - ما يدعم قراءة القائلين بتصحيح المسار، بل نراها تأسيسيا انقلابيا للحظة توافقية جديدة، مع ما يعنيه ذلك من تغير موازين القوى داخل المشهد العام دون أي تثوير حقيقي لبنية المنظومة الفاسدة، وهو ما سنحاول المحاججة عليه في هذا المقال.
نراها تأسيسيا انقلابيا للحظة توافقية جديدة، مع ما يعنيه ذلك من تغير موازين القوى داخل المشهد العام دون أي تثوير حقيقي لبنية المنظومة الفاسدة

يُجمع القائلون بتصحيح المسار والقائلون بالانقلاب على أن الواقع التونسي قد بلغ قبل 25 تموز/ يوليو مرحلة من التأزم السياسي والاقتصادي والصحي؛ كانت تُنذر بفرضيات كارثية. ولذلك لا يمكن الزعم بأن قرارات الرئيس قد جاءت من فراغ، أو إنها لا تمتلك "مقبولية" عند فئة كبيرة من التونسيين.

ورغم اتفاق أغلب التونسيين (بمن فيهم أنصار الحزام الحزبي لحكومة السيد هشام المشيشي) على سوء إدارة تلك الحكومة لاستحقاقات المرحلة، فإن خلافهم مع أنصار الرئيس يظل في نقطتين:

1- دور الرئيس التونسي في تأزيم المشهد السياسي، أي اعتباره جزءا من الأزمة وليس حلا لها. وتوجد لهذه الحجة أدلة كثيرة؛ لعل أمتنها هو المشروع السياسي للرئيس (وهو مشروع معارض لمخرجات الدستور وللديمقراطية التمثيلية ولسلطة الأحزاب وللنظام البرلماني المعدّل). ولا شكّ عند هؤلاء في أن الرئيس قد تعمد ترذيل السلطة التشريعية وتعطيل التحويرات الحكومية وإرساء المحكمة الدستورية، ليمهد الطريق أمام مشروعه السياسي (ديمقراطية مباشرة أو مجالسية، نظام رئاسي، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون ضرب الديمقراطية التمثيلية ومسار الانتقال الديمقراطي والمنظومة الحزبية).
لا شكّ عند هؤلاء في أن الرئيس قد تعمد ترذيل السلطة التشريعية وتعطيل التحويرات الحكومية وإرساء المحكمة الدستورية، ليمهد الطريق أمام مشروعه السياسي

2- تعمد الرئيس المنطق الانقلابي على الدستور (وقد مهّد لذلك بتأويلاته المتعسفة لدستور لا يؤمن به حسب تصريحاته قبل تولي الرئاسة وبعد ذلك)، في حين أنه كان يستطيع أن يطرح مشروعه بطريقة دستورية عبر مشروع قانون لتعديل النظام السياسي أو عبر طرح ذلك المشروع على الاستفتاء الشعبي العام. فما الذي يمنعه - وهو المؤمن بأنه الممثل الأوحد للإرادة الشعبية على خلاف البرلمان - من أن يفعل ذلك ويجنّب البلاد مزيدا من الأزمات في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها؟

وقد أظهرت التوجهات العامة للدولة بعد قرارات 25 تموز/ يوليو أن أولوية الرئيس لم تكن تفكيك منظومة الفساد وضربها بقوة صلاحياته الجديدة، والدعم الشعبي الكبير لأي قرارات إصلاحية حقيقية، بل إن أولويته المطلقة هي تصفية حساباته السياسية. فبعد تجميد البرلمان والاختفاء المشبوه لرئيس الحكومة هشام المشيشي، قامت السلطات الأمنية باعتقال بعض قيادات ائتلاف الكرامة والنائب المستقل ياسين العياري، في مشهد يذكّرنا بالمخلوع (ضرب رموز المعارضة بقضايا حق عام)، كما قامت السلطات الأمنية بغلق مقر قناة الجزيرة بمنطق التعليمات (أي دون إذن قضائي).
بارونات الفساد (النواة الصلبة للمنظومة القديمة) ووكلاؤهم السياسيون والإعلاميون والنقابيون فإننا لم نر إيقافا لأي واحد منهم

أما بارونات الفساد (النواة الصلبة للمنظومة القديمة) ووكلاؤهم السياسيون والإعلاميون والنقابيون فإننا لم نر إيقافا لأي واحد منهم. فقد اكتفى الرئيس باستدعاء رئيس منظمة الأعراف وطالبه بإرجاع المبالغ المنهوبة من الدولة عبر آلية دعا إليها الرئيس حتى قبل انتخابه: الأكثر فسادا من رجال الأعمال يقوم بتنمية المنطقة الأكثر، فقرا وهكذا دواليك. ورغم إيجابية هذا الطرح، فإنه يتناقض مع ما عبّر عنه الرئيس سعيد من رفضه مصالحة رجال الأعمال ودعوته إلى اعتماد منطق المساءلة والمحاسبة معهم.

يمكن لأي قارئ منصف للفصل 80 من الدستور أن يوافق الرئيس في قراراته، ولكن ليس باعتبارها قراءة دستورية لذلك الفصل، بل باعتبارها قراءة "ما فوق دستورية"، أي قراءة سياسية في نهاية الأمر. وهو ما يعني أننا أمام صراع تأويلات لا تضبطه "روح الدستور"، بل موازين القوى بين مختلف الفرقاء. ولا شك عندنا في أن "انقلاب" الرئيس "ما فوق الدستوري" هو انقلاب من داخل منظومة الحكم، وليس انقلابا عليها.
هذا التقاطع بين الرئيس والمنظومة القديمة سيجعل أي "خارطة طريق" للمرحلة القادمة هي خارطة طريق يضعها مركز قوة معين في المنظومة القديمة، وذلك بترضية الرئيس (أو توظيفه مؤقتا) لخدمة احتياجات تلك المنظومة وإملاءات الجهات المانحة/ الناهبة خلال الفترة القادمة

فالرئيس يكاد يتماهى في أطروحاته ومواقفه السياسية مع أغلب مكونات المنظومة القديمة (معاداة حركة النهضة وائتلاف الكرامة وشيطنة النواب المحاربين للفساد، الميل إلى تعديل النظام السياسي ليكون نظاما رئاسيا، التطبيع مع الاتحاد العام التونسي للشغل والتعامل معه وكأنه غير معني بمشروع محاربة الفساد، الانحياز للمحور الفرنسي- الإماراتي- السعودي واتخاذ مسافة شبه عدائية من المحور القطري- التركي، الرغبة في إخراج حركة النهضة من الحكم رغم اختلاف الدوافع بين الرئيس وحلفائه الموضوعيين.. الخ.. الخ).

ولا شك في أن هذا التقاطع بين الرئيس والمنظومة القديمة سيجعل أي "خارطة طريق" للمرحلة القادمة هي خارطة طريق يضعها مركز قوة معين في المنظومة القديمة، وذلك بترضية الرئيس (أو توظيفه مؤقتا) لخدمة احتياجات تلك المنظومة وإملاءات الجهات المانحة/ الناهبة خلال الفترة القادمة.

مهما كان إيمان الرئيس قيس سعيد بمشروعه السياسي، ومهما كانت صوابية اعتراضاته على المنظومة السياسية الحاكمة (بشقّيها التنفيذي والتشريعي)، فإنه لن يستطيع وضع أي خارطة طريق تهدد مصالح المنظومة القديمة أو حلفائها الإقليميين والدوليين، ولا حتى إخراج حركة النهضة من المشهد السياسي.
حركة النهضة قد استنفدت دورها في خدمة المنظومة القديمة وينبغي تعويضها (على الأقل مؤقتا دون الدخول في مواجهة مفتوحة معها) بفاعل جديد وسردية جديدة. وهو ما يعني أن سردية "تصحيح المسار" هي في جوها سردية توافقية مخاتلة، أو سردية توافقية عليها أن تنكر ذاتها لاكتساب شرعيتها

فنحن نعتقد أنّ الرئيس قيس سعيد لن يكون في أفضل الحالات إلا لحظة توافقية ثانية بين النواة الصلبة للمنظومة القديمة وبين الوافدين الجدد على حكم الدولة. ذلك أن حركة النهضة قد استنفدت دورها في خدمة المنظومة القديمة وينبغي تعويضها (على الأقل مؤقتا دون الدخول في مواجهة مفتوحة معها) بفاعل جديد وسردية جديدة. وهو ما يعني أن سردية "تصحيح المسار" هي في جوها سردية توافقية مخاتلة، أو سردية توافقية عليها أن تنكر ذاتها لاكتساب شرعيتها.

ونحن نرجح أن يعود مجلس النواب إلى استئناف أعماله، لكن ضمن سياق جديد سيُمهد بالضرورة لتعديل النظام السياسي وإعادة هندسة المشهد العام في تونس. ولكنّ تلك التغيرات كلها لن تمس من مصالح النواة الصلبة للمنظومة القديمة، وإن كانت ستشرعن نفسها عبر إجرإءات سطحية قد تخفف الاحتقان الاجتماعي وتؤجل انفجار الأزمة البنيوية والتأسيسية لمنظومة الحكم.. إلى حين.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (2)
adem
الجمعة، 06-08-2021 10:04 م
المشكل في العالم العربي من خلال تجارب عدّة طرف واحد الدّولة العميقة وكلاء الاحتلال وأذرعهم المختلفة الاعلامية القضائية ..... داعميهم و مشغّليهم الإقليميين في المقابل الشعوب المستضعفة المنهكة و من يدافعون عنهم حقيقة لا ادّعاء و منهم الإسلاميون . الآن الكاتب الفاضل يعترف بأنّ الدولة رغم الثورة بأيدي الدّولة العميقة و مشغّليهم ثمّ بذكاء خارق !!! ؟؟؟يستنتج أنّ النّهضة خاصّة و من معها هم سبب خراب تونس ؟!!! أين عقولكم ؟ بكتاباتكم هذه تزيّفون وعي شعوبكم و ستدفعون الثمن غاليا ، ستذهب النهضة و تندثر ان كان هذا أعزّ امانيكم و لكن تأكّدوا من شيئ واحد ستعيشون أنذالا و تموتون عبيدا .
ابو أيوب التونسي
الجمعة، 06-08-2021 06:44 م
المعادلة مختلفة لم تقدر النهضة على الحفاظ على نفسها في الحكم .. ماهي التحديات التي ستعترضها وهي في المعارضة ان لم تحل