مقالات مختارة

عن انقلاب تونس وعودة سيف القذافي

عبد الله الكبير
1300x600
1300x600

مفاجأتان حملتهما نهاية يوليو، في الواقع لم يحضر عنصر المفاجأة بالمعنى التام للكلمة، لأن ما جرى كان متوقعا للمتابعين لمسار التطورات السياسية في المنطقة العربية..

الأولى هي انقلاب الرئيس التونسي على الدستور، وحل الحكومة، وتجميد مجلس النواب وإحكام قبضته على كل السلطات التنفيذية والتشريعية والنيابية، والشروع في تأسيس مرحلة جديدة في تونس تنتكس فيها الديمقراطية ويعود وجه الاستبداد سافرا.

لكن غير المتوقع في هذا الانقلاب هو انحياز الجيش، ومباشرته تنفيذ قرارات الرئيس الاستثنائية، بمنع رئيس وأعضاء مجلس النواب من الدخول لمقر البرلمان. إذ لطالما نأى الجيش التونسي عن الشأن السياسي، ورفض قمع الثورة، بل تدخل لحماية المتظاهرين من قمع الأجهزة الأمنية، ولم يستجب لكل الدعوات والضغوطات لكي يتدخل في الأزمات السياسية التي عصفت بالبلاد عقب الثورة. هذا التحول في موقف الجيش ينبغي أن يثير القلق، لأنه بات شريكا في إدارة شؤون الدولة وربما تكون خطوته التالية هي إزاحة الرئيس وحكم البلاد بشكل مباشر، أو ممارسة الحكم بشكل غير مباشر مبقيا على الرئيس كواجهة مدنية، إذا تنامى الطموح السلطوي لدى قادته. 

التطورات ستكون مفتوحة على كل السيناريوهات، وما سيحدد مسار هذه التطورات والمآلات، هي مواقف القوى السياسية الأساسية ومنظمات المجتمع المدني العريقة مثل اتحاد الشغل، والمواقف الدولية، التي غلبت عليها حتى الآن، المهادنة والمسايرة وافتقدت للحزم في الانحياز للديمقراطية، أما العامل الحاسم فهو موقف الشعب، وحراكه بعد تلاشي نشوة الأمل في تحسن الأوضاع. فالأزمات المتراكمة لا يمكن للانقلاب أن يحلها أو يخفف من وطأتها، ومن ثم سوف يستيقظ الذين رقصوا وفرحوا بالانقلاب على وقع خيبة الأمل  حالما تتبين لهم خيوط شرك الخديعة، وسوف تتوقف عودتهم للتظاهر والاحتجاج على المستوى الذي سيسمح به الانقلابيون. ومن يفرط في حريته لا يلومن إلا نفسه. 

الحدث الآخر الذي شكل مايشبه المفاجأة، هو الظهور الصحفي لسيف القذافي بعد سنوات من الاختباء والتخفي، متعمدا بهذا الغياب الطويل إثارة الغموض والتكهنات حول مصيره، تاركا شائعات موته تروج بين الناس، لكن غالبية الطبقة السياسية تعرف انه على قيد الحياة، ويعيش في مكان ما بالزنتان وبالتالي كانت تتوقع هذا الظهور الذي جاء عبر مقال طويل في صحيفة نيويورك تايمز للصحفي روبرت ورث. 

لا مجال هنا لتحليل المقال وما ورد فيه من مواقف ورؤى للقذافي الصغير، الأهم هو تأثير هذه العودة على المشهد السياسي، وموقف بقايا أنصار نظام والده من رغبته في العودة للحياة السياسية، وطرحه لنفسه كرئيس محتمل ليبيا في المرحلة المقبلة عبر بوابة الانتخابات. 

 

 

لم ينل خبر ظهور سيف ما كان يتوقعه من اهتمام وردود فعل، بصرف النظر إن كانت مرحبة أو مستهجنة



لم ينل خبر ظهور سيف ما كان يتوقعه من اهتمام وردود فعل، بصرف النظر إن كانت مرحبة أو مستهجنة، فإطالة الغياب تعكس الرغبة في التحشيد للحظة ظهور تحل كصاعقة مدوية، مثل لحظة ظهور النجم على مسرح يغص بجمهور يتحرق شوقا لإطلاته، أو كلحظة ظهور إمام الزمان للمؤمنين الذين أرهقم الأعداء طغيانا وظلما، لابد أن تثير الكثير من الصخب والاضطرابات بل وحتى الزلازل والاعاصير. ولذلك فإن القذافي الصغير سوف يعيد حساباته على وقع خيبة الأمل التي مني بها، وهو يرى خبر ظهوره بجانب صورته الغامضة يحل تاليا لخبر فتح الطريق بين مصراتة وسرت، وبضع عشرات في مظاهرات بمدن غير مؤثرة تلوك هتافات عتيقة.
 
ربما يحيي ظهور سيف الأمل في نفوس أنصار نظام والده كرمز من الماضي يلتفون حوله، بعد خيبة أملهم المروعة في حفتر، الذي استخدمهم لمأربه السلطوية من دون أن يجنوا شيئا، وانقلب حلم احتفالهم بالعودة في ميدان طرابلس إلى كابوس في صحارى سرت، بعد انسحاب تكتيكي مدهش ينتظر أن يصبح منهجا دراسيا في أرقى الاكاديميات العسكرية كما يتنبأ المسماري. ولكن سيكون من العسير تجمعهم في كيان واحد يوازي القوى الأخرى في الملعب السياسي العسكري. فخلال سنوات غيابه جرت في النهر الليبي مياه كثيرة. انعقدت تحالفات وانصرمت، وأندلعت حروب صغيرة وكبيرة وانتهت. وتبدلت المواقف حسب المتغيرات، وذهبت حكومات وتشكلت أخرى، وتوغلت القوى الدولية والإقليمية في مجرى الصراع. ولم تكن الشخصيات المحسوبة على نظام القذافي بمنأى عن مياه النهر الجارية.
 
حين قاد سيف المشروع الإصلاح تحت لافتة ليبيا الغد تغنى كثيرا بالديمقراطية، وبعث أملا كبيرا في نفوس المتطلعين لها، لكنه فشل في اختبار الثورة، حين كانت اللحظة مواتية ليطرح نفسه كبديل محتمل للتغيير، مفضلا النهج الذي تبناه والده، معولا على العنف والقمع في إجهاضها. فهل يجد له دورا في مرحلة مختلفة تتجاوز رغباته وتطلعاته القديمة؟ أم ستقوده الغريزة إلى جبهة القوى المضادة للتغيير، ليمضي نحو نهاية تراجيدية مثل أبطال الأساطير القديمة حين تخذلهم الحكمة؟ يقول الكاتب في مقاله: " لايزال سيف الإسلام هو نفس الشخص الذي ينقصه النضوج كما كان قبل عشر سنوات. لم يتعلم شيئا من السنوات التي قضاها في البرية". 

الظهور عبر صحيفة أمريكية لم يأت عبطا أو بسبب شهرة الصحيفة وقربها من دوائر صنع القرار، وإنما لتوصيل رسالة للقادة في عاصمة القرار الدولي مفادها الاستعداد للحوار والتعاون، وطي صفحة الماضي، وانطلاق بداية جديدة خالية من أخطاء الماضي ومتجاوزة لرغبات الانتقام.

في كل الأحوال. سواء في تونس أو ليبيا أو بقية دول الربيع العربي. مثلما لم تحسم الثورة انتصارها على القوى المضادة للتغيير، فإن هذه القوى لم تحسم هي أيضا نصرها، لذا لا يمكن التسليم بأن هذه الجولة أو تلك نهائية. ففي مراحل التحول التاريخي يطول أمد الصراع عبر جولات عديدة، وكل الثورات تتعرض للنكسات والانكسارات، فالمنحنى الثوري لا يمضي صاعدا حتى بلوغ ذروة القمة، بل ينحدر أحيانا حتى يكاد يلامس محور السينات الأفقي. 

كتب الفيلسوف الكبير عمانويل كانط في كتابه المهم (ماهو التنوير): إذا كانت ثورة ما كافية لانهاء اضطهاد يمارسه طاغية، فإن المجتمع لا يتنور ويتحرر إلا تدريجيا، وبشكل بطيء. فمالم يتعود الناس على أن يفكروا بأنفسهم ولأنفسهم، فسيبقون كالدمى في أيدي حكام جدد يحلون محل الطاغية المخلوع. ولذلك، فالمهم هو ترسيخ الحرية الأكثر براءة. حرية أن يعقل الإنسان الأمور في رأسه.

(ليبيا أوبزرفر)

 

التعليقات (0)

خبر عاجل