قضايا وآراء

ضياع بوصلة العرب بين الجغرافيا والتاريخ

أحمد القديدي
1300x600
1300x600

سميت تونس منذ 2011 أم الربيع العربي بما أحدثته من زلزال هدم أركان الاستبداد فهل يتغير إسمها ليصبح (أم الردة العربية نحو الإستبداد؟) لا قدر الله! لأن المعركة الكبرى المنسية في الوقت الراهن هي المعركة الدائرة رحاها بين الجغرافيا والتاريخ والسبب يبدو واضحاً لكل ذي عينين ولكل متابع لأحداث الماضي والحاضر.. فمنطقة الشرق الأوسط التي كان الغربيون من الأدباء يسمونها بالشرق الحائر هي منطقة مرسومة بالقلم والمسطرة يوم السادس عشر من شهر آذار (مارس) سنة 1916 بتوقيع معاهدة سايكس بيكو (على اسم وزيري خارجية الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية) إلى درجة أن أحد المؤرخين الإنجليز سأل حين شاهد الخريطة الجديدة: ما سر الانحراف في الخط المستقيم الفاصل بين الحجاز القديم والمملكة الهاشمية الأردنية؟ فقال له شاهد عيان كان حاضراً في رسم خريطة سايكس بيكو: لقد عطس المسيو بيكو وهو يسطر الحدود فانحرفت يده بالقلم وتجسد على أرض الواقع (أي على خارطة الجغرافيا) هذا المنعطف التاريخي غير الإرادي في الربع الخالي! 

ولذلك لا يجب أن نعجب إذا ما سمعنا الأمريكيين ومن ورائهم الإسرائيليين يحلمون بخريطة جديدة للشرق الأوسط، بل ويحاولون رسم ملامحها بما استطاعوا من قوة ومن إمكانات وبما استطعنا نحن العرب من غفلة وخروج عن دائرة الفعل والتأثير ما دامت بعض حدودنا العربية مرسومة بعطسة وانحراف قلم! 

فانظر حولك أيها القارئ الكريم لتشهد المساعي تعمل عملها الدؤوب المستمر لتغيير الخريطة العربية لا حسب مصالح العالم العربي وسيادته على ثرواته بل حسب المصالح الظرفية المؤقتة للإمبراطوريات الظرفية المؤقتة (الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية عام 1916 واليوم عام 2021 واشنطن وموسكو وبيجين!) وما دامت أعمار الإمبراطوريات في أيدي الأقدار كما علمنا العلامة عبد الرحمن بن خلدون!

ولذلك فإن ما نخشاه هو تشكل حدودنا الجديدة لحساب الشركات العملاقة العابرة للقارات ومصالح السوق العالمية ومصالح المحتل الإسرائيلي لأرض فلسطين بينما نحن العرب نتحول من أوطان إلى أسواق ومن مواطنين إلى مستهلكين ومن بني آدميين (لنا كرامة حسب نص القرآن) إلى قطعان من ساكني الصحارى والقفار نشكل عالة على الأمم الأخرى! (ما دمنا لا ننتج ما نأكل ولا ننسج ما نلبس ولا نركب ما نصنع و.... حتى لا نقرأ ما نكتب!).. فالأمة التي تريد أن تسطر حدود خريطتها وتصنع تاريخها لا بد من أن تغير ما بأنفسها وتعمل العقل في شؤون مصيرها ولنبدأ بفك الاشتباك ما بين الجغرافيا والتاريخ! 

لقائل أن يقول إن هذه مسائل نظرية فأفصح رحمك الله! 

ولهؤلاء أقول: إن الذي يجرى اليوم أمام أعيننا المندهشة وسواعدنا المحبطة في كل من اليمن وتونس والعراق وفلسطين والسودان وسوريا هو الذي سيقرر المصائر العربية على مدى القرن الراهن على أقل تقدير. فماذا فعلنا نحن العرب أمام هذه المخاطر المحدقة؟ 

الجواب: لا شيء ذا معنى وذا أبعاد وذا تأثير (وقد ذكر الأستاذ محمد حسنين هيكل في حديث له على قناة الجزيرة منذ سنوات رحمه الله أن العرب بصدد البحث عن المعنى والأبعاد والتأثير! 

 

ما نخشاه هو تشكل حدودنا الجديدة لحساب الشركات العملاقة العابرة للقارات ومصالح السوق العالمية ومصالح المحتل الإسرائيلي لأرض فلسطين بينما نحن العرب نتحول من أوطان إلى أسواق ومن مواطنين إلى مستهلكين ومن بني آدميين (لنا كرامة حسب نص القرآن) إلى قطعان من ساكني الصحارى والقفار نشكل عالة على الأمم الأخرى!

 



لنبدأ بالمعنى الذي يجب أن ندركه من خلال المواجهة ما بين الجغرافيا والتاريخ. والمعنى الخفي هو في نظري يختصر في المصالح وليس في الأيديولوجيات. فالغرب تحركه مصالحه المتغيرة مع الزمن وهو يرسم سياساته تبعا لمصالحه الاقتصادية والجيوستراتيجية أساساً والأمنية أيضاً. بينما نحن العرب يعتقد جزء من نخبتنا أن ردود أفعالنا يجب أن تكون أيديولوجية (مهما كانت تلوينات هذه الأيديولوجية) فظللنا إزاء الغرب نتكلم لغة لا يفهمها ويخيل لنا أننا أقنعناه أو حتى هزمناه! وهي قمة الغفلة (مثال فشلنا مع ما رفعناه منذ الخمسينات من شعارات القومية العربية أو الإشتراكية!). 

ثم تأتي الأبعاد وهي ذات ثقل ومضاعفات لأن مواجهاتنا في مناطق الأزمات مع الغرب خلفت حروباً وضحايا وإضاعة وقت وفرص لا تعوض. وظللنا نراوح مكاننا ظانين أننا نتقدم وننتصر! فكم من الخسائر لحقتنا في ربع القرن الأخير ومطلع هذا القرن في مواجهات عسكرية لم نستعد لها وسيقرأها التاريخ بعيون الاعتبار (نماذج قرارات المرحوم جمال عبد الناصر يونيه 1967 والمرحوم صدام حسين مع غزو الكويت أغسطس 1990). أما التأثير فهو ضرورة الاعتبار (المففود حاليا)  بهذه التحولات واستخلاص دروسها الضرورية حتى ندخل مرحلة الرشد السياسي والحضاري في عالم لا يرحمنا إذا ما لم نرحم أنفسنا! 

لو طبقنا هذه النظرية على أزمة تونس الراهنة لتأكد لنا أن الشعب التونسي الذي قدم مثالا مشرفا على هزيمة الإستبداد سلميا (2010) لكنه ضيع فرصة بناء دولة قوية ذات مؤسسات بسبب الخلافات الإيديولوجية، وفشلت النخب المتعاقبة على السلطة ومعارضاتها في إدارة شؤون الشعب الإقتصادية والإجتماعية، وتأزم الوضع وصولا إلى هذه الأحداث الأخيرة.. ونسينا أن تونس ليست قمرا صناعيا تدور في فلكها منعزلة عن العالم جغرافيا لأن تونس ترتبط بمحيطها المغاربي والعربي والدولي ومن مصلحة كل القوى أن تحافظ تونس على أمنها وسلام مجتمعها ومدنية دولتها.


التعليقات (0)