قضايا وآراء

ما هي الثورة؟ تحريرا للمصطلح كي لا نظل نجري في المكان (3 – 5)

أحمد عبد العزيز
1300x600
1300x600
"استعادة السيادة": سوار الذهب نموذجا..

في عام 1985م، انتهز المشير عبد الرحمن سوار الذهب، وزير الدفاع السوداني، وجود الرئيس جعفر نميري، العسكري المنقلِب على سلفه، خارج البلاد وأطاح به، وتولى زمام السلطة، إثر مظاهرات عارمة، وأعلن عن فترة انتقالية لمدة عام واحد، انتهت بانتخابات عامة، لم ينافِس فيها سوار الذهب على السلطة.

فاز الصادق المهدي في هذه الانتخابات، وأدار شؤون البلاد من موقع رئيس الوزراء، في ظل ما سُمي "مجلس رأس الدولة" برئاسة أحمد الميرغني، ثم بعد ثلاث سنوات (أي في عام 1989م) انقلب الفريق عمر البشير، وزير الدفاع، على هذا النظام المنتخب.. وبعد ثلاثين سنة (أي في عام 2019م) انقلب وزير الدفاع عوض بن عوف، على سلفه المنقلِب عمر البشير، وأعلن رئاسته لمجلس عسكري انتقالي لمدة عامين! ولم يكد ابن عوف يخلع بيادته ويتمدد على سريره بعد إلقاء بيانه الانقلابي، حتى أجبره جنرال انقلابي آخر اسمه عبد الفتاح البرهان على التنحي! ولست أسخر في وصفي لهذا المشهد، ولكنها الحقيقة الفجة المجردة! فقد تم الانقلاب على الانقلاب بعد 24 ساعة، فقط لا غير!

وبالنظر إلى الدوافع والمآلات، فإن ما قام به سوار الذهب ليس "انقلابا" وإنما "استعادة للسيادة" (والتسمية لي).. بمعنى، أنه انتزع السيادة من نميري الدكتاتور، العسكري المنقلِب على سلفه، وردّها إلى صاحبها الأصيل، ألا وهو الشعب، الذي انتخب بدوره سلطة جديدة.

في هذا المثال:

• سوار الذهب لم ينقلب على سلطة منتخبة انتخابا حرا من الشعب.

• ولم ينقلب ليحكم.

• لم ينافِس في الانتخابات العامة التي دعا إليها.

• استعاد السيادة من دكتاتور عسكري منقلِب، وسلم مقاليد الحكم لسلطة انتخبها "صاحب السيادة" الذي هو الشعب.

فأي احترام للشعب وسيادته أكثر من هذا؟!

ومن ثم، لا يمكننا وصف حركة سوار الذهب بـ"الانقلاب"، عند الكتابة عنها! وإن كان هناك مَن يُصر على وصفها بالانقلاب، فليكن له ما أراد، ولكنه "انقلاب محمود" شاء أم أبى، ويا ليت الانقلابات التي تحدث، في بلادنا المنكوبة بمستبديها، تُعيد السيادة إلى الشعوب؛ لتختار حكامها بحرية وشفافية.

بالمقابل، كان الحال مختلفا كليا في مصر، رغم تشابه الحالتين من حيث "الشكل" في كونهما "إطاحة بالنظام القائم"، لكن شتان شتان بين "استعادة السيادة" من دكتاتور عسكري منقلِب، وإعادتها إلى الشعب، و"انقلاب على رئيس شرعي" منتخب انتخابا حرا نزيها، استولى الجنرال المنقلِب بموجبه على السلطة بالقوة المسلحة، واضطهد الشعب وقهره فيما بعد.

انقلاب 3 يوليو 2013م في مصر..

قام وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي بانقلاب عسكري على الرئيس الدكتور محمد مرسي، الرئيس الذي وصل إلى سدة الحكم بإرادة الشعب الحرة، في عملية انتخابية نزيهة لم يشبها أي تزوير. وقد أثبتت الأحداث (بما لا يدع مجالا للشك) أن الانقلاب على الرئيس مرسي قد تم بـ"دعم سخي" من المملكة السعودية، في ظل حكم الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود (الراحل)، ودولة الإمارات العربية المتحدة التي يديرها عنوة (على خلاف الدستور) محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد إمارة أبو ظبي، ودولة الكويت تحت حكم الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح (الراحل). كما أن الكيان الصهيوني أعلن مرارا وتكرارا، في صحافته وعلى ألسنة قادته: "السيسي هدية الشعب المصري الخاصة لإسرائيل"، و"السيسي بطل قومي لكل اليهود"! فأي "دولة" هذه التي تتخذ من "عدوها" بطلا قوميا لها؟!

هذا يعني (دون عناء في التفسير) أن السيسي ليس عدوا لـ"إسرائيل"، ولا حتى صديقا لها، بل إنه من نسيجها الخالص الذي استنبتته في أرض مصر؛ ليعمل بكل تفان وجِد؛ لتحقيق حلم "دولة إسرائيل العظمى" التي تمتد (في أذهانهم) من نهر النيل غربا حتى نهر الفرات شرقا، ومن سوريا شمالا حتى المدينة المنورة جنوبا!

بدأ هذا الانقلاب المشؤوم (فعليا) يوم 3 تموز/ يوليو 2013م، باختطاف الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي من القصر الرئاسي، واحتجازه في مكان مجهول لمدة عام تقريبا، ثم قُدِّمَ لمحاكمة صورية هزلية، ظل خلال جلساتها محتجزا داخل قفص زجاجي عازل للصوت، ولم يُسمح له بالكلام إلا مرات معدودة، وفي أضيق الحدود، وكان يتم حجب صوته كلما ارتأت "هيئة المحكمة" ذلك، إذا كانت الجلسة علنية!

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل قام السيسي، وكان لا يزال وزيرا للدفاع في نظامه الانقلابي، برئاسة مستشار اسمه عدلي منصور (سَمّاه "الرئيس المؤقت")، بارتكاب أكثر المجازر وحشية في تاريخ مصر الحديث ضد المعتصمين السلميين، بميدان رابعة العدوية بالقاهرة وميدان النهضة بالجيزة، في يوم 14 آب/ أغسطس من سنة 2013م، أولئك الذين كانوا يطالبون بعودة الرئيس المنتخب، وقد قُتل في ذلك اليوم المشهود (وكنتُ أحد شهوده) نحو خمسة آلاف معتصم سلمي، ما بين شيخ، وطفل، وشاب، وامرأة، بالرصاص الموجه للرأس والصدر. وفي نهاية اليوم، تم تجريف ما بقي من جثامين الشهداء بـ"الجرافات" وشُحِنت إلى أماكن مجهولة، حتى كتابة هذه السطور!.. كما تم حرق مسجد رابعة العدوية، وتحولت مصر (منذ ذلك التاريخ) في قبضة هذا السيسي، المدعوم صهيونيا ومن أنظمة عربية (متخلفة) آيلة للسقوط، إلى سجن كبير، ولم يَسْلم من اضطهاده وتنكيله أولئك الذين ساندوه في انقلابه الدموي على الشرعية الدستورية، سواء كانوا عسكريين أو مدنيين.

في هذا المثال:

• تم الانقلاب (بالقوة المسلحة) على رئيس منتخب، انتخابا حرا نزيها.

• أمسك هذا المنقلب (الذي حنث بقسمه، وخان رئيسه المنتخب) بزمام السلطة، وهو لا يزال وزيرا للدفاع، رغم وجود شخص في القصر الرئاسي، سمّاه هو "الرئيس المؤقت"!

• لم يتردد هذا المنقلب في إطلاق الرصاص الحي على متظاهرين سلميين، ظلوا متمسكين بشرعية الرئيس المنتخب، ويطالبون بعودته؛ لاستكمال مدته الرئاسية، احتراما للدستور المستفتَى عليه من الشعب (صاحب السيادة).

• زج هذا المنقلب بآلاف آخرين في سجون تأنف الجرذان من اتخاذها جحورا لها، في إهدار متعمد لأبسط حقوق الإنسان، ولا يمكن لشخص لديه انتماء حقيقي لوطن ما، أن ينكل بالآلاف من أبناء وطنه، على هذا النحو المخزي!

• بعد عام، رتّب هذا المنقلب "انتخابات رئاسية" شهد العالم بهزليتها، وافتقارها (التام) لمقومات العملية الانتخابية، ونصّب نفسه رئيسا لمصر، رغم إعلانه، مرارا وتكرارا، أنه لا يطمع في تولي السلطة!

• فرّط هذا المنقلب في سيادة مصر على جزيرتي تيران وصنافير لصالح المملكة السعودية، أحد رعاة الانقلاب على الشرعية الدستورية والرئيس المنتخب، كما تنازل عن حقوق مصر في حقول غاز شرق المتوسط، لصالح الكيان الصهيوني، واليونان، وقبرص اليونانية، وفرّط (أيضا) في حصة مصر التاريخية في مياه النيل، المضمونة لها بموجب المعاهدات الدولية.

• جرّف هذا المنقلب الحياة السياسية والفكرية في مصر، وأشاع الرعب في قلوب الجماهير، وبث اليأس في نفوسهم من أي إصلاح محتمل.

• أفقر هذا المنقلب الشعب المصري، بجباية الأموال منه كرها، متسلحا بآلته العسكرية، وشرطته الباطشة.

• ارتكب جرائم أخرى كثيرة، يضيق المجال عن سردها؛ لضمان بقائه في موقع الرئاسة المغتصَب أطول مدة ممكنة، لم يكن أولها (ولن يكون آخرها) العبث بــ"الدستور" الذي وضعه إمَّعَاتُه في سنة 2014م.

وبالنظر إلى الدوافع، والوقائع، والمآلات، فإن ما وقع في 3 تموز/ يوليو 2013م كان "انقلابا عسكريا دمويا"، وخيانة عظمى بحق الشعب، قبل أن يكون بحق الرئيس المنتخب.

وأما الإصرار على أن 30 يونيو كانت "ثورة"، فهو محض ادعاء فارغ، لا يستقيم عقلا؛ لأن النظام الذي تمت الإطاحة به كان نظاما منتخبا انتخابا حرا نزيها، جاء تعبيرا عن إرادة الشعب "صاحب السيادة".

فقد كان يمكن إبعاد هذا النظام المنتخب عن السلطة بعد ثلاث سنوات (وهي المدة التي كانت متبقية من ولاية الرئيس مرسي الدستورية)، من خلال انتخابات حرة نزيهة أيضا، لكن الجميع (في الداخل والخارج) كان يعلم أن هذه السنوات الثلاث كانت كافية جدا للرئيس مرسي؛ كي يثبت جدارته في الحكم، وإحداث نقلة نوعية في حياة المصريين لأول مرة منذ قرون، الأمر الذي كان سيحقق لمصر مكسبين كبيرين، لأول مرة في تاريخها:

• الأول، نجاح أول تجربة حكم في المنطقة، يكون القرار فيها للشعب.

• الثاني، ممارسة الرئيس مهامه (لأول مرة) من موقع "موظف عام" يخدم الشعب، لا أن يخدمه الشعب (كما هو واقع الحال على مر العصور)، ويغادر موقعه في تاريخ محدد سلفا.

وهذا ما أخاف بعض الأنظمة المتسلطة في الخليج، من انتقال الحلم في التغيير بـ"العدوى" إلى شعوبها، كما أخاف الكيان الصهيوني من صعود عدو "عَقَدِي" إلى سدة الحكم، لأول مرة في مصر، التي هي العدو التاريخي لهذا الكيان الغاصب، وأخاف النظام العالمي المتسلط على شعوب العالم الثالث، من فقدان السيطرة على هذه الشعوب، ومن ثم تصبح مَصالحه في خطر، لا سيما الاقتصادية منها، وكان العسكر جاهزون للخيانة، فخانوا.. وتم وأد حلم المصريين، بل وحلم كثير من الشعوب العربية والإسلامية، في الانعتاق من الاحتلال بالوكالة، إلى أمد لا يعلمه إلا الله.

(يُتبع)

twitter.com/AAAzizMisr
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الثلاثاء، 19-01-2021 09:40 م
*** الأحداث الجارية في العالم العربي خلال السنوات العشر الأخيرة، لا ينطبق عليها (وفقاُ لكافة التعاريف والمعايير) إلا وصف أنها أحداث الثورات العربية، أو قل إنها "الثورة العربية الكبرى"، (وهو مصطلح سبق وأن استخدمه من قبل الدارسون لمرحلة تاريخية مرت بالعالم العربي منذ أكثر من قرن مضى)، والمصطلح أكثر انطباقاً على أحداثنا المعاصرة، فنحن نعيش مرحلة في التاريخ العربي أكثر ثورية من الثورة الفرنسية، والثورة ظاهرة اجتماعية معقدة، أي متعددة الجوانب والنواحي والأطراف، وتقع أحداثها على مدى سنوات ومراحل، وكثيراُ ما يتم تناولها بدراسات متسرعة، قاصرة على نواح دون غيرها أو محدودة بفترة زمنية دون أخرى، والثورات تختلف فيما بينها في صفاتها، وفقاً لظروفها التاريخية والمجتمعية، ووضع تعريف واحد محكم متفق عليه يجمع كل صفات تلك الثورات على اختلاف ظروفها الزمانية والمكانية أمر مستحيل، وتختلف معايير قياس نجاح الثورات لكل مرحلة، والقول بفشل الثورة المصرية أو انتهائها، والتي هي جزء من الثورات العربية، قول مخالف لحقائق وشواهد كثيرة تطول قائمتها، وإن لم يدرك عمقها بعض من قدموا الشهداء والتضحيات لنصرتها لاستعجالهم نتائجها، وفي ظروف بيئتنا الإسلامية فالمصطلح بمعانيه المعاصرة لم يستخدمه أو يعرفه المؤرخون وعلماء اللغة والفقه والشريعة في القرن الأول وما بعده، ولذلك تجد كثيراُ من السلفيين المقلدين المعاصرين، غير معترفين به، إما لعدم فهمه، أو خدمة لمن يعملون في خدمتهم من الحكام المستبدين، فيقصرون جهودهم على تحريم الخروج على حاكمهم الذي يتمتعون برعايته، حتى ولو كان هذا الحاكم مرتكباُ للموبقات، منتهكاُ للحرمات، ناهباُ لأموال البلاد، معتدياُ على أبناء شعبه، متماهياُ مع أعداء أمته، انظر كيف سارت إيفانكا ابنة ترامب المتهودة زوجة الصهيوني كوشنر تتمخطر في قصورهم، وسط ترحيب وحفاوة مشايخ وأمراء آل سعود، الذين امتلأت سجونهم بخيرة علماء المسلمين. والثورة العربية لم تنته، وهي ثورة واحدة مستمرة، وسيكون لها نتائج واسعة المدى، وهي ليست وقفات احتجاجية ولا تمرد محدود ولا هبة أو حتى انتفاضة، وسنشهد قريباُ فصولاُ جديدة لها، فالأيام القادمة حبلى بالأحداث، والله أعلم.