كتاب عربي 21

المحكمة الأوروبية وقراراتها المثيرة

إسماعيل ياشا
1300x600
1300x600
أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، الأسبوع الماضي، قرارا يدين استمرار اعتقال صلاح الدين دميرطاش، الرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطي الموالي لحزب العمال الكردستاني، ويطالب السلطات التركية بالإفراج الفوري عنه. ويقبع دميرطاش حاليا في سجن "أدرنة"، وتستمر محاكمته لدوره في ما يعرف إعلاميا بـــ"أحداث كوباني" و"أحداث الخنادق".

كان حزب الشعوب الديمقراطي قد طالب أنصاره في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2014 بالنزول إلى الشوارع، بحجة تجاهل الحكومة التركية حصار مدينة عين العرب/ كوباني في شمال سوريا من قبل تنظيم داعش الإرهابي. وبعد دعوة دميرطاش، بدأ المؤيدون لحزب الشعوب الديمقراطي وعناصر حزب العمال الكردستاني القيام بأعمال العنف والفوضى في عدد من المدن التركية. وأسفرت الأحداث الدموية عن استشهاد شرطيين ومقتل 43 من المدنيين، بالإضافة إلى إصابة المئات من عناصر قوات الأمن والمواطنين. وكان أحد الضحايا قاصرا يبلغ من العمر 16 عاما، تم ضربه وقتله بشكل وحشي في مدينة ديار بكر، ورميت جثته من الطابق الثالث من قبل أنصار حزب الشعوب الديمقراطي الذين خرجوا إلى الشوارع تلبية لدعوة دميرطاش، علما أن الشاب المغدور كان يوزع ذاك اليوم لحوم الأضاحي على الفقراء.

حزب العمال الكردستاني حرض أنصاره في صيف 2015 على محاولة التمرد المسلح في بعض المدن بجنوب شرقي البلاد، بحجة المطالبة بــ"الحكم الذاتي" في تلك المنطقة. وحفر الإرهابيون الخنادق وأقاموا السواتر الترابية في الأزقة للاشتباك مع قوات الأمن. وكانت المنظمة الإرهابية قد استعدت لتلك اللحظة منذ مدة طويلة، وكدَّست كمية كبيرة من الأسلحة والمتفجرات في البيوت والمخازن، مستغلة لجهود المصالحة التي كانت تجريها الحكومة آنذاك. وقتل في تلك الأحداث التي استمرت حتى آذار/ مارس 2016 مئات من الطرفين والمدنيين. وكان دميرطاش قد أعلن أثناء الأحداث دعمه لتلك المحاولة، وأطلق تصريحات يدافع فيها عن حفر الخنادق للاشتباك مع قوات الأمن، واعتبره "دفاعا عن النفس".

هذا القرار الأخير أعاد إلى الأذهان قرارات مثيرة متعلقة بتركيا سبق أن أصدرتها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وكانت المحكمة قد قضت في تسعينيات القرن الماضي بأن معاقبة طالبة تركية محجبة تصر على دخول جامعة إسطنبول دون أن تخلع حجابها، لا تعد انتهاكا لحقوق الإنسان، وأيدت حظر الحجاب في الجامعات التركية، قائلة إن تلك العقوبة مشروعة وضرورية في المجتمع الديمقراطي. كما أن ذات المحكمة زعمت أن إغلاق حزب الرفاه من قبل المحكمة الدستورية التركية في كانون الثاني/ يناير 1998، لا يتعارض مع الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وادَّعت بأن الحزب قام بتحريض الشعب التركي على العنف حين كان شريكا في الحكومة الائتلافية، ورأت أن منع نجم الدين أربكان وقادة الحزب من ممارسة الأعمال السياسية لمدة خمس سنوات، يمكن اعتباره حاجة اجتماعية ملحّة لحماية المجتمع الديمقراطي.

هناك أمثلة أخرى لازدواجية معايير المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ولعل أبرزها قرار المحكمة في قضية حزب باتاسونا الذي حظرته إسبانيا لارتباطه بمنظمة إيتا الإرهابية، ولما رفع الحزب قضية لدى المحكمة ضد قرار الحظر، رفضت المحكمة القضية وأيدت قرار الحظر بحجة أن امتناع قادة حزب باتاسونا عن استنكار الهجمات الإرهابية التي تقوم بها منظمة إيتا الانفصالية يعتبر دعما للإرهاب؛ ودعاية لصالح المنظمة التي يصنفها الاتحاد الأوروبي ضمن التنظيمات الإرهابية.

الاتحاد الأوروبي يصنف حزب العمال الكردستاني أيضا كمنظمة إرهابية. ويعرف القاصي والداني ارتباط حزب الشعوب الديمقراطي بحزب العمال الكردستاني، كما أن قادة الحزب ونوابه لا يخفون على الإطلاق دعمهم للمنظمة الانفصالية، ولا يستنكرون هجماته الإرهابية. بل صرح دميرطاش ذات مرة في كلمته بتجمع انتخابي، بأنهم سيقومون قريبا بنصب تمثال "الرئيس آبو"، في إشارة إلى مؤسس حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان المسجون في جزيرة إمرالي ببحر مرمرة.

الدول الأوروبية تتعاطف مع حزب العمال الكردستاني وتدعمه، على الرغم من تصنيفه كمنظمة إرهابية. ولذلك لم تفاجئنا المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بقرارها الأخير. وهو قرار سياسي بامتياز، يعكس موقف الدول الأوروبية من تركيا وحزب العمال الكردستاني، إلا أنه في ذات الوقت يكشف مدى بعد قرارات المحكمة عن المعايير الحقوقية والقانونية والعدالة والإنصاف؛ لأن قرارات المحكمة لو كانت مبنية على الأسس القانونية الثابتة، لا المواقف السياسية المتغيرة، لما اختلف قرارها بشأن منظمة إيتا وحزب باتاسونا ودعم الأخير للمنظمة الإرهابية الانفصالية عن قرارها في صلاح الدين دميرطاش وحزب الشعوب الديمقراطي ودعمهما لحزب العمال الكردستاني الإرهابي الانفصالي.

محاكمة دميرطاش ما زالت مستمرة، ولم تعلن المحكمة التركية حتى الآن قرارها النهائي في القضية. وبالتأكيد، ستكون الكلمة الأخيرة فيها للقضاء التركي المستقل في نهاية المحاكة، بناء على الأدلة المتوفرة، ودون الالتفات إلى القرار السياسي الذي أصدرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان؛ لأن تركيا ليست تحت وصاية الاتحاد الأوروبي.

twitter.com/ismail_yasa
التعليقات (0)