أفكَار

مفكر جزائري لـ"عربي 21": "صراع الحضارات" بررت الإسلاموفوبيا

مصطفى بخوش: فهنتنغتون كان واحدا من أكثر المنظرين السياسيين الأمريكيين إثارة للجدل (فيسبوك)
مصطفى بخوش: فهنتنغتون كان واحدا من أكثر المنظرين السياسيين الأمريكيين إثارة للجدل (فيسبوك)

بعد مرور27 سنة بالضبط، على طرح المفكر صامويل هنتنغتون Samuel Huntington نظرية صدام الحضارات، التي زعمت تغير طبيعة الصراع الدولي، من دائرة الصراع الأيديولوجي/ المصلحي، إلى صراع ثقافي بين الحضارات (الإسلام والكونفوشيوسية ضد الغرب)، بدأت تتكشف محدودية هذه النظرية كما غيرها من النظريات الأخرى المتعلقة بالصراع الدولي المعقد، على الرغم من الوثبة التي حققتها مع صعود داعش وبعدها صعود دونالد ترامب عام 2017 الى قيادة الولايات المتحدة، حيث قيل وقتها أن ترامب قد جاء خصيصا ليحقق نبوءة هنتغتون حول صراع الحضارات.

ولعل من الكتاب والمفكرين العرب القلائل، الذين عملوا على فتح هذا الملف الفكري الشائك، وإعادة فتح النقاش بشأن أهم مقولات نظرية (صراع الحضارات)، واستكشاف مدى قدرتها على شرح وتفسير الأحداث الدولية اليوم، هو الدكتور مصطفى بخوش، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بسكرة شرق الجزائر، كتابه الصادر عن منشورات دار ميم للنشر الجديدة، بعنوان "واقع الصراع الدولي في ضوء استبصارات نظرية صدام الحضارات"، حيث يشير الدكتور بخوش في كتابه الجديد إلى "أن رواج وانتشار نظرية صدام الحضارات يرجع في جزء منه إلى بحث الغرب عن عدو جديد، يضمن استمرارية أهمية التحالف الغربي تحت قيادة الولايات المتحدة، ويخفى التناقضات الاجتماعية الداخلية أو على الأقل يؤدي إلى إضعافها".

وفي هذا اللقاء الفكري الثري الذي تستضيف فيه "عربي21" الدكتور مصطفى بخوش بمناسبة صدور كتابه الجديد، إحاطات شاملة بواقع الصراع الدولي حاليا، واستنتاجات مؤطرة بعد دراسة معمقة لمآلات (صدام الحضارات)، والتي من بين أهمها: التأكيد على دور منظومة القيم في بناء قوة ومكانة الدول، وعدم الركون إلى النظرة الأحادية في تفسير التاريخ، وبالتالي الصراعات. واستمرار هيمنة النزعة العنصرية الغربية والتحيز الحضاري والاثني على عملية التنظير في حقل العلاقات الدولية. وكذا أن استراتيجية صناعة العدو تخلق ديناميكية لدى الآخر تسمح بالاستجابة للتحديات الوهمية التي يطرحها، وتضمن التماسك الداخلي. 

وقد وجدت دوائر صنع القرار الغربية ـ التي لا يمكنها أن تعيش وتستمر إلا في ظل الصراع ـ في الترويج للخطر الإسلامي والتهديد الصيني فرصة لإعادة إنتاج العدو، وخلق فزاعة الخطر الإسلامي الكونفشيوسي ليحل محل الفزاعة الشيوعية.

 



س ـ لماذا عاودت استحضار نظرية صامويل هنتغتون صراع الحضارات اليوم بالذات في كتابك الجديد بعد مرور أكثر من ربع قرن على طرحها؟


 ـ الحقيقة الأسباب كثيرة، لكن يأتي على رأسها وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) 2017 وتبنيه خطاب جعل شعاره "أمريكا أولا" وهو ما سبب إرباكا كبيرا داخل الولايات المتحدة أولا أدى لصعود حركة احتجاجات في الولايات المتحدة حاملة شعار "حياة السود مهمة" فضحت الدور الذي تلعبه إيديولوجيات العرق في السياسات المحلية. وفي علاقاتها الخارجية ثانيا بشكل فتحت المجال لبدايات تحول في طبيعة العلاقات بين مختلف الأعراق، ليس فقط في شقها المادي والاجتماعي والسياسي، وإنما تعداه إلى مجال التنظير لهذه العلاقات من وجهة نظر مغايرة تتحرر من التحيز ومن المركزية الغربية. 

وهو ما دفع الكثير من الباحثين للبحث عن مقاربات نظرية تستطيع أن تفسر هذا التحول في سياسات الولايات المتحدة وتسمح بفهم الإرباك الذي تترتب عليه، ومن بين المقاربات تم استحضار نظرية صراع الحضارات من جديد وعاد النقاش بشأن قدرتها التفسيرية للأحداث. لذلك رأيت أنه من المناسب تناولها من جديد في منطقتنا وإعادة فتح النقاش بشأن أهم مقولاتها واستكشاف مدى قدرتها على شرح وتفسير الأحداث الدولية اليوم.

س ـ هل حدث ما توقعه صامويل هنتغتون بالفعل من تحول في طبيعة الصراع الدولي، من كونه كان صراعا أيديولوجيا مصلحيا في الماضي بين الدول، إلى صراع ثقافي بين الحضارات، وتحديدا بين الحضارتين الإسلامية والغربية؟

 ـ بداية أشير أن محور نظرية صدام الحضارات هو استبدال فكرة الصراع الأيديولوجي التي كانت سائدة خلال الحرب الباردة بفكرة الصراع الحضاري، حيث يزعم هنتنغتون أن التنوع الحضاري والتعددية الثقافية سيكونا مصدرا دائما للتوترات والصراعات لا يمكن مقاومته. ويجادل بأن أفضل ما يمكن أن نأمله في التعاطي معه هو الحكمة وضبط النفس. وقد ظهرت فكرة الصدام الحضاري بهذا المعنى حديثا عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، في محاولة من الغرب لفرض نموذجه الحضاري وتبرير بسط هيمنته واستمرارها في مختلف أنحاء العالم.

وبالعودة لسؤالك دعني أشير إلى إشكالية العلاقة بين الأكاديمي والسياسي في الولايات المتحدة، حيث كثيرا ما أثيرت فكرة أن الحقل الأكاديمي في الولايات المتحدة ومن خلال المقاربات والنظريات التي يطورها يقوم بتبرير ممارسات رجال السياسة، ويضفي نوعا من الصدقية والعلمية على قرارات السلطة السياسية. وكمثال عن ذلك يرى دفييد أورسي Davide Orsi أن هنتنغتون في مقاله صدام الحضارات كان أكثر اهتماما بتقديم المشورة للنخبة السياسية الأمريكية، بدلا من المساهمة في الفهم النظري للشؤون الدولية والتنبؤ بتطوراتها. 

فهنتنغتون كان واحدا من أكثر المنظرين السياسيين الأمريكيين إثارة للجدل. فهو بالأساس أكاديمي، غير أنه عمل كغيره من الباحثين الأمريكيين بوصفه مستشارا لوزارة الخارجية الأمريكية، ومجلس الأمن القومي، ووكالة الاستخبارات المركزية تحت إدارتي جونسون وكارتر. وبالنظر لكل الوظائف التي شغلها، والمناصب التي تقلدها، يمكن القول إنها سمحت له ببناء جسور بين عالم البحث والأكاديميا من جهة، وعالم الممارسة والواقع من جهة أخرى، وسهلت لأفكاره الانتشار والرواج، ليس فقط في الأوساط الأكاديمية ولكن أيضا في دوائر صنع القرار، التي استخدمت الكثير من افكاره خصوصا منها صدام الحضارات لتبرير سلوكها الخارجي، واضفاء نوع من الشرعية عليه، بدءا من عهد الرئيس بوش الابن بحربه على الارهاب ووصولا لدونالد ترامب بشعاره أمريكا أولا. 

لذلك اتصور أن نظرية هنتنغتون قدمت صيغة منظرة للتهديدات الجديدة التي ترتبت عن نهاية الحرب الباردة، وحاول اضفاء اطار علمي يبرر كيفيات التعاطي معها. وهذا بالضبط ما شكل سر انتشارها ونجاحها. فهنتنغتون قدم معالجة نظرية مختلفة لتصور تم تسويقه في الواقع، فالتحليل الذي لجأ إليه يتماشى تماما مع أهداف الولايات المتحدة الأمريكية الاستراتيجية بعد الحرب الباردة، ووفر لها من جديد نظرية شاملة سمحت لها بإدارة سياسات الهيمنة واستدامتها وتبريرها. وذلك من خلال استبدال التهديد الشيوعي بالخطر الاسلامي (الحرب على الارهاب) الذي يستدعي استدامة التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة بل وتوسيعيه. وبمعنى أدق هنتنغتون لم يكن مشغولا بالتنبؤ بمسار تطور العلاقات الدولية وإنما كان مهتما بالبحث عن مبررات استمرار الهيمنة الأمريكية من خلال خلق عدو جديد يحل محل العدو القديم (الاتحاد السوفييتي).

س ـ كيف أثرت برأيك العولمة في طبيعة الصراع الدولي؟ وهل بالفعل خفضت من حدة الصراع والتصادم ومكنت لقيم التقارب بين الشعوب والأمم أم العكس هو الذي حصل؟


 ـ بالرجوع إلى المفهوم البسيط للعولمة الذي يعرفها بأنها انكماش المكان وتسارع الزمان وتعقد علاقات الإنسان، وبالنظر للديناميكيات التي تقوم عليها وتدفع نحو تنميط ونمذجة ليس فقط السلع والبضائع ولكن كذلك سلوكات الأفراد والجماعات والأنظمة وفق مقولات الليبرالية (الديمقراطية، حقوق الانسان، اقتصاد السوق)، اعتقد الكثير من المنظرين بعد نهاية الحرب الباردة أننا بصدد مرحلة سلام طويل تتراجع فيها الحروب والصراعات وتنتشر فيها عمليات التكامل والانماج على شاكلة ما حدث في تجربة الاتحاد الأوربي. 

غير أن هذا الاعتقاد لم يصمد طويلا أمام تفجر الصراعات في منطقة البلقان وفي جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق وفي منطقة البحيرات الكبرى. لتبرز الحاجة لتنظير جديد يفسر هذا الواقع الجديد. لتبرز نظرية صدام الحضارات التي اعتبرت أن الحضارة حلت محل الأيديولوجيا في تفسير الصراع الدولي، الذي يبقى حقيقة ثابتة لا يمكن تجاوزها. بل وأكثر من ذلك يزعم أنصار الواقعية كالباحث جون ميرشايمر أن العولمـة المفرطة تسـببت فـي خسـائر اقتصادية ملحوظة لقطـاع كبير مـن الناس داخل الديموقراطيات الليبرالية بمـا فيها القطـب الأوحـد (الولايات المتحدة). الأمـر الـذي أدى إلـى إضعــاف المنظومــة الليبراليـة الدوليـة. وعلاوة علـى ذلـك، دعــم الاقتصـاد الدولي المفتوح صعود الصين والتي بالإضافة إلى مساعدتها روسيا في الاستشفاء، قوضت الواحديــة القطبيــة والأســس التــي تقــوم عليهــا المنظومة الليبرالية الدولية. فالعولمة حسبهم لم تقرب بين الشعوب ولم تنشر السلام بل العكس كشفت عن مزيد من التناقض بين الشعوب وزادت في حدة وانتشار الصراعات. 

وأشير كذلك إلى إن الدول الغربية رغم قيمها الديمقراطية في الداخل، إلا أنها في علاقاتها الدولية في ظل العولمة تظل عنصرية ومتحيزة، تسعى لفرض نموذجها وتعميمه وبسط نموذجها بدعوى عولمة القيم الانسانية.

س ـ حاولت من خلال كتابك الجديد "واقع الصراع الدولي في ضوء استبصارات نظرية صدام الحضارات"، مناقشة نظرية صراع الحضارات ومدى قدرتها واستبصارها على شرح ما يحدث اليوم من اضطراب وفوضى في المشهد الدولي.. ما هي أبرز النتائج التي خلصت اليها؟


 ـ أولا أزعم أن رواج وانتشار نظرية صدام الحضارات يرجع في جزء منه إلى بحث الغرب عن عدو جديد، يضمن استمرارية أهمية التحالف الغربي تحت قيادة الولايات المتحدة، ويخفى التناقضات الاجتماعية الداخلية أو على الأقل يؤدي إلى إضعافها. والملاحظ هنا أن وجود عدو حقيقي أو وهمي يؤدي لتعزيز روح التضامن ويجعل من الدعوة إلى الوحدة والتضامن جديرة بالثقة، وبغياب خطر الحرب وغياب الأعداء يتضاءل مغزى التحالف بالنسبة للمواطن، فعندما يواجه الناس أعداء سواء كانوا حقيقيين أو وهميين فإنهم يحتاجون إلى دولتهم وهنا تستطيع الدولة أن تدّعي لنفسها قدرا أعظما من الشرعية.

ويمكن إجمال أهم الاستنتاجات التي خلصت لها في التالي: 

1 ـ التأكيد على دور منظومة القيم في بناء قوة ومكانة الدول. فهي تشير إلى مجموعة من القيم الأخلاقية المتناسقة، والمبادئ الثابتة نسبيا التي تحكم سلوكات الأفراد داخل المجتمع، وتنظم العلاقات بين الأفراد أولا، ثم بين الأفراد والمؤسسات وفي الاتجاهين ثانيا، بهدف ضمان تماسك وتجانس المجتمع . وهي التي تؤسس لمعايير النزاهة والشفافية التي تسمح بتصنيف السلوكات إلى ما هو مقبول وما هو غير ذلك داخل المجتمع، وتضبط معايير تصنيف الصديق والعدو على المستوى الدولي. وعادة ما يكون مصدر هذه القيم الموروث الثقافي والحضاري للمجتمع وكذا التجارب التي عايشها الفرد والمجتمع.

2 ـ لا يمكن الركون إلى النظرة الأحادية في تفسير التاريخ، وبالتالي الصراعات. فالصراع ظاهرة معقدة، له أسبابه المتعددة، وغالبا ما تتداخل الأسباب السياسية والاقتصادية والنفسية والإيديولوجية والاجتماعية والثقافية والحضارية في رسم ملامح الصراعات وأبعادها وتداخلاتها. والتي تعكس في الغالب الأعم لعبة مصالح إستراتيجية معقدة.

3 ـ تعكس نظرية صدام الحضارات استمرار هيمنة النزعة العنصرية الغربية والتحيز الحضاري والاثني على عملية التنظير في حقل العلاقات الدولية. ويبرز هذا التحيز في محاججة هنتنغتون بأن الحضارت غير الغربية لن تبقى مجرد موضوع للتاريخ ومجرد هدف للكولونيالية الغربية. وستتحول كمحرك ومُشكل للتاريخ إلى جانب الغرب. وهو يدعو لمنع ذلك.

4 ـ استراتيجية صناعة العدو تخلق ديناميكية لدى الآخر تسمح بالاستجابة للتحديات الوهمية التي يطرحها، وتضمن التماسك الداخلي. وقد وجدت دوائر صنع القرار الغربية - التي لا يمكنها أن تعيش وتستمر إلا في ظل الصراع - في الترويج للخطر الاسلامي والتهديد الصيني فرصة لإعادة إنتاج العدو، وخلق فزاعة الخطر الإسلامي الكونفشيوسي ليحل محل الفزاعة الشيوعية. وأزعم ان المشكلة اليوم ليست في الغرب الذي يبحث عن خدمة مصالحه، وتحقيق أهدافه واستدامة هيمنته بالأدوات والوسائل التي يعتقد أنها قادرة على تحقيق ذلك، المشكلة في المسلمين الذين ما يزالون يعيشون خارج التاريخ، لا يدركون كيف يدافعون عن مصالحهم ومبادئهم، ويسهل استدراجهم وقيادتهم لمعارك تم الإعداد لها سلفا، بطريقة لا تختلف كثيرا عن لعبة مصارعة الثيران التي يتم فيها استدراج الثور بقطعة قماش أحمر. 

س ـ هل يمكن بعد كل ما جرى أن نسلم اليوم بمقولة نهاية التاريخ وانتصار الرأسمالية؟ في ظل واقع يزداد فيه الصراع بأشكاله التاريخية والأيديولوجية والحضارية؟


 ـ أعتقد أن تزامن عولمة الاقتصاد وتحول العالم إلى قرية صغيرة بفضل التطور الحاصل في وسائل الاتصال والمواصلات، مع تنامي الوعي السياسي القومي على صعيد عالمي. كشف أن مقولة نهاية التاريخ وانتصار الرأسمالية ما هي في الواقع إلَا نتاج لفكر رغبوي، ينزع لفرض الإطار الليبرالي المقترن باقتصاد السوق على المستوى العالمي ليس إلا. 

ففي ظل التحولات الهائلة والمتلاحقة في النظام الدولي وأنساق الفكر والقيم الحضارية التي يمر بها المجتمع الدولي منذ انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي، برز الدين ليقتحم الشؤون الدولية وهو الأمر الذي يشير إليه هنتنغتون في شكل صحوة دينية أو إحياء ديني، وتم التركيز بصفة خاصة على الإسلام والكونفوشيوسية، وحتى فرانسيس فوكوياما في كتابه حول نهاية التاريخ أشار لذلك، حيث جاء فيه "أن الديمقراطية الغربية وإن سجلت انتصارها الحاسم، وباتت في موقف يستحيل معه على أي نظام فكري أن يتحداها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، إلا أنه توجد بعض التحديات التي يمكن أن تواجهها منها الأصولية الإسلامية". 

إن هذا الأمر يعكس على مستوى التحليل حلول الحضارة كوحدة للتحليل بعد سقوط الإيديولوجيا، وعلى مستوى الممارسة محاولة إحلال الإسلام كعدو بديل للشيوعية. ويعكس على المستوى الكلي بروز الحاجة لتنظير جديد يستوعب الواقع الجديد الذي ترتب عن نهاية الحرب الباردة وأنهى الاستقطاب الثنائي بين الشرق والغرب. الحقيقة إن الطبيعة المعقدة والمتشابكة للعلاقات الدولية، بسبب تشعب قضاياها ومشاكلها، وتنوع الثقافات فيها وتعددها، قد أحبطت الرؤى الكبرى التي تريد أن تختصر العالم في نموذج واحد على طريقة نهاية التاريخ.

س ـ هل أدت القاعدة وبعدها تنظيم الدولة داعش دورهما في إذكاء الصراع الحضاري وتغذيته مع "الأصولية الاسلامية" ولم تبق بعد اختفائهما تقريبا إلا اللجوء إلى فزاعات كاريكاتورية على طريقة شارلي إيبدو لصناعة عدو وهمي.. أم أن المخطط الصراعي الصدامي ما يزال في بدايته فقط؟


 ـ بنى هنتنغتون حجج نظريته حول فكرة أن "الستار الحديدي للأيديولوجيا" قد تم استبداله بـ "الستار المخملي للثقافة" وأن الستار المخملي قد تم رسمه عبر الحدود الدموية للإسلام. وحاجج أيضا بأن الصراع سيحدث بين الحضارات المختلفة. غير أن العالم شهد العديد من الصراعات، والتي يختلف فيها كل صراع عن الآخر من حيث الطبيعة والأطراف والشدة والديناميكيات. الأمر الذي أضعف من قدرة نظرية صدام الحضارات التفسيرية. غير أن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) التي تبناها تنظيم القاعدة اكسبت نظرية هنتنغتون مصداقية هائلة، وأعادها للسطح من جديد، وكانت بمثابة قبلة حياة جديدة لها. حيث بدا أن الهجوم يؤكد بداية الاشتباك بين الاسلام والغرب. 

فهنتنغتون اعتبر أن الهجمات ضد القلب المالي للولايات المتحدة وول ستريت Wall Street والقلب العسكري البنتاغون ما هي إلا بداية للأسوء، فنحن هنا لسنا بصدد ميلاد حضارة عالمية تقوم على مبدأ الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق مقبولة من طرف الجميع، بل العكس نحن بصدد بداية حرب كبرى حسبه. 

إذن جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتجعل من صدام الحضارات نموذجا تفسيريا لشرح ما حدث، وبعدها أعطى صعود الدولة الاسلامية في العراق والشام "داعش" زحما اضافية لأطروحة هنتنغتون، حيث فسر الكثيرون ظهور داعش على أنه دليل على صوابية أطروحة "صراع الحضارات". 

وقد طرح هنتنغتون في مقالات ومقابلات وندوات فكرة الخطر الاسلامي ليختزل صدام الحضارات من صدام بين الغرب وبقية العالم إلى صدام بين الغرب والإسلام، ففي مقاله: عصر حروب الإسلام الذي نشر بالعدد السنوي لمجلة نيويورك لعام 2002 اعتبر أن السياسة العالمية المعاصرة تعيش عصر حروب الإسلام، فالمسلمون كما قال يحاربون بعضهم بعضا ويحاربون الآخرين أكثر جدا مما تفعل شعوب الحضارات الأخرى، معتبرا أن حروب الإسلام حلت محل الحرب الباردة. ويشير إلى أن 12 من 16 عملا إرهابيا بين عامي 1993 و2000 قام بها مسلمون، وأن ثلثي الصراعات المسلحة في العام والتي بلغ عددها 32 عام 2000 انخرط فيها المسلمون . واعتقد أن مسألة الخطر الاسلامي تعد اليوم واحدة من القضايا التي تلقى الكثير من الرواج والانتشار وحتى الاستثمار فيها في الأوساط الغربية رغم عدم جديتها وعدم صدقيتها، حيث يقول الباحث فريد هاليداي: "قليلة إن وجدت هي قضايا العلاقات الدولية التي ولدت من الخرافات قدر ما ولدت قضية "الخطر الإسلامي" المزعوم، فمنذ أواخر السبعينات وبشكل أخص منذ الثورة الإيرانية في 1978/1979 أصبحت قضية "الإسلام" وتحديه المفترض "للغرب" شاغلا دوليا مستمرا".

 

جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتجعل من صدام الحضارات نموذجا تفسيريا لشرح ما حدث، وبعدها أعطى صعود الدولة الاسلامية في العراق والشام "داعش" زحما اضافية لأطروحة هنتنغتون، حيث فسر الكثيرون ظهور داعش على أنه دليل على صوابية أطروحة "صراع الحضارات".

 



وتجد خرافة الخطر الإسلامي ما يبرر انتشارها في عاملين اثنين يرتكز عليهما أنصار هذا الخطاب هما:

1 ـ تاريخ الصراع بين عالم الغرب المسيحي وعالم الإسلام يمتد عبر ألف عام، كانت فيه الحروب الصليبية سمة بارزة عكست الطبيعة الصدامية للعلاقة بين الحضارتين الاسلامية والمسيحية حسبهم.

2 ـ انتهاء الحرب الباردة التي أنهت صراعا أيديولوجيا بين الشرق والغرب كان قد شكل بوصلة تحدد السلوكية الخارجية لكل منهما، وهو ما استدعى خلق أو بعث النزاع القديم المفترض بين الغرب المسيحي والعالم الإسلامي ليكون بوصلة جديدة.

ويتم تضخيم هذا الخطر ليتحول لفزاعة بشكل دوري عبر تسليط الضوء على أحداث بعينها دون غيرها والترويج لها اعلاميا بشكل يوحي بوجود مؤامرة اسلامية على القيم الغربية لتتشكل بذلك فوبيا من الاسلام والآخر المختلف تسمح بأمننة القضايا الاجتماعية والاقتصادية وخلق ديناميكيات جديدة وفقا لمنطق نظرية التحدي/الاستجابة التي طرحها أرنولد توينبي فوحدها المدنيات التي تواجه تحديات تنمو وتزدهر والعكس صحيح ففي غياب التحدي والعدو تدخل الحضارة في مرحلة مراوحة المكان ثم التراجع بسبب غياب العدو.

التعليقات (0)