فكرة الميثاق أو العقد هي فكرة قديمة تعود إلى ما قبل نشوئها كنظرية سياسية في عصر الحداثة (القرن السابع عشر)، وقد أرجعها البعض إلى "العهد القديم" حيث ثمة أمثلة على ميثاق ديني بين
بني إسرائيل وبين الإله يهوه.
كان شعب يهوه مجتمعا دينيا ومدنيا في آن واحد: فالإله يهوه هو ملك إسرائيل، دون أن تكون له سلطة واقعية ملموسة، فهذه الأخيرة هي بيد الملك البشري لا الملك الإله، ومن هذا التزاوج بين الله والعالم اليهودي نشأت فكرة الميثاق لدى بني إسرائيل، وفي التوراة أمثلة كثيرة على وجود العقود بين الله وشعبه، وهي عقود مبنية على التزامات متبادلة، يحصل فيها الشعب على حماية الله مقابل طاعتهم لأوامره ونواهيه.
وقد وجدت فكرة الميثاق أو العقد بذرة لها في
الفلسفة اليونانية، خصوصا عند السفسطائيين، ولاحقا عند أفلاطون في كتابه "القوانين" عندما أشار في الكتاب الثالث لقسم متبادل بين المدن الثلاث: أرغوس، ميسينا، لاسيديمون، وبين ملوكها.
وفي مرحلة أخرى احتلت فكرة الميثاق أو العقد مكانها في الفلسفة الأبيقورية التي أرجعت نشأة المجتمعات إلى عقد منفعي بين الأفراد بهدف الحصول على الأمن.
المرجعية السياسية
الأساس السياسي لفكرة العقد الحديثة وجدت مرجعيتها التاريخية في بدايات القرن الثالث ميلادي مع كركلا ثم فسباسيان، حين أصبح تنصيب الإمبراطور يتم بموجب مرسوم دستوري، (قانون تولية الإمبراطور/ LEX REGIA DE IMPERIO) وتصادق عليه جمعيات الناخبين الشعبيين.
ظل الشعب في الإمبراطورية الرومانية على المستوى النظري مصدرا أعلى للسلطة السياسية، ولذلك لم يكن هناك ثمة تفرقة بين عقيدة LEX REGIA أي سلطة الشعب، وعقيدة LEGIBUS SOLUTUS أي ما يرضي الأمير تكون له قوة القانون، لأن الشعب نقل سلطاته إلى الأمير، وعدم هذا التمييز بين العقيدتين يعود إلى أنه كان ينظر إلى علاقة الحكام بالمحكومين ضمن تعابير تعاقدية، فقد كان القانون والعرف بمثابة إكسير حياة للجماعة السياسية، فهو المحدد البنيوي للعلاقة بين السياسي والاجتماعي، وما ذاك إلا لأن القانون والعرف كان يستمدان قوتهما وشرعيتهما من القانون الطبيعي.
تتغلغل فكرة الميثاق أو العقد في مجمل البنيان القانوني للجماعة السياسية خلال العصر الوسيط، من دون أن تتبلور في إطار نظرية سياسية ـ قانونية واضحة المعالم، لأن الإشكالية السياسية للعصور الوسطى كانت إشكالية السلطة (هدف السلطة)، وليست إشكالية الدولة (القوة ذات السيادة)، فهذا الأمر يعود إلى أواخر عصر النهضة، لأن العصر الوسيط، وإن كان قد افتتح إشكالية السلطة، فإنه لم يكونها حول السيادة.
الطابع أو السمة الأساسية للسلطة السيدة، هي أن تمتلك القوة التشريعية ومصدر القانون، وهذا وضع لم يكن متاحا في العصور الوسطى، لأن الأمير كان مقيدا بالقوانين والأعراف.
تميز مجتمع القرون الوسطى بفكرة العقد، سواء بين الملك والشعب في المراحل الأولى للإمبراطورية الرومانية، أو بين الملك والنبلاء الإقطاعيين ـ بعد انهيار الإمبراطورية عام 476 ونشوء النظام الإقطاعي الذي يكون فيه الملك هو الأول بين متساويين ـ أو بين الإقطاعيين والفلاحين.
وكان للصراع بين البابا غريغوار السابع وبين الإمبراطور هنري الرابع حول التنصيبات الدينية عام 1085، دورا مهما في الاستعانة بفكرة التعاقد، حيث وجد منظرو الكنيسة أنه يمكن للشعب عدم إطاعة الإمبراطور إذا ما قام بانتهاك القسم، أو إذا أخل بالاستقرار العام.
كان لجوء البابوية إلى فكرة القسم والميثاق لغرض تأكيد أن سلطة الإمبراطور مستمدة من الشعب، بينما سلطة البابا مستمدة من الله وحده، لكن هذه الدعوة فتحت المجال لنشوء مجالا سياسيا قائم في ذاته أدى لاحقا إلى تبلور مفهوم الدولة.
وفي آتون الصراع الديني ـ السياسي في أوروبا القارية، كان النبلاء الإنكليز يفرضون على الملك القبول بالوثيقة العظيمة المعروفة باسم الماغنا كارتا MAGNA CARTA عام 1215 والتي بموجبها قبل الملك جون مطالب النبلاء.
ومع القديس توما الأكويني 1225 ـ 1274 أخذت فكرة
العقد الاجتماعي بعدا دينيا وسياسيا على المستوى الفلسفي، حيث جمع بين تقاليد آباء الكنيسة والفكر الأرسطي، فقال إن السلطة ذات أصل إلهي وطبيعة إلهية، لكن جوهرها طبيعي من صنع الإنسان وناشئة من حاجاته إلى الاجتماع.
مهدت هذه الأفكار لوقوع الصراع في القرن الرابع عشر، حين بدأت الأسئلة تطرح حول العلاقة بين الملك ورعاياه، وبين البابا وبقية المسيحيين، وكان مارسيل دو بادو 1275 ـ 1343 المشرع الرئيسي والمدافع عن شرعية السلطة السياسية القادرة وحدها على إقامة السلام.
استخدم دو بادو مصطلح المشرع البشري ويقصد به الشعب، ومن دون تفويض من المشرع البشري لا يحق للحاكم أن يحظى بالمشروعية السياسية.
ومع نشوء حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر والإصلاح المضاد الكاثوليكي، بدأت تنتشر فكرة التعاقد كانتشار النار في الهشيم، وقد عبرت عن نفسها أولا مع نشوء الحركة المشيخية في اسكتلندا ومؤسسها جون نوكس 1514 ـ 1572 الذي دعا إلى العصيان وعدم طاعة الملكة ماري تيودور أو ماري الدموية لأنها حاولت إعادة الكاثوليكية وفرضها على الشعب، وعبرت عن نفسها ثانيا في أتون الصراع بين الهجونوت والدولة في فرنسا ثانيا.
دافع كالفن عن مفهوم معين للعهد، عندما اعتبر أن وعود المسيح في العهد الجديد هي إعادة تأكيد للناموس القديم، الذي هو عبارة عن سلسلة من الاتفاقات الأساسية، أولها تم بين الله وآدم، بينما تمت الاتفاقيات اللاحقة مع نوح وإبراهيم وموسى، وتجددت أخيرا بتضحية المسيح.
ما زلنا هنا نتحدث عن العقد الاجتماعي من منظور ديني، لأن العقد هو بالأساس عقد بين الله والناس، ولذلك أكد كالفن على حق جماعة من البشر الأتقياء أن يجددوا التأكيد الأساسي على علاقتهم التعاقدية مع الله.
تبلور مفهوم العقد الاجتماعي الحديث
مع القرن السابع عشر بدأت فكرة العقد الاجتماعي كنظرية سياسية تتشكل، وكان للسياق التاريخي السياسي في العصور الوسطى دوره، من دون أن يعني ذلك أن نظرية العقد الاجتماعي الحديثة كانت تعبيرا عن تقليد معين أو تيار فكري معين، بقدر ما كانت تعبيرا عن السجالات والسجالات المضادة التي كانت مهيمنة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وأحد أهم هذه السجالات في القرن السادس عشر والسابع عشر كانت الحملة التي قام بها مفكرون كثر (مولينا، فيتوريا، دو سوتو، سواريز، ألتوسيوس) للتأكيد على أن المجتمع الإنساني لم ينشأ كنعمة من الله، وإنما نشأ بتوافق المواطنين من خلال عقد جرى بينهم.
لكننا إلى الآن ما زلنا نتحدث عن العقد الاجتماعي في المرحلة السابقة على ظهور فلاسفة العقد الاجتماعي (هوبس، بوفندروف، لوك، روسو)، فمع هؤلاء استعمل العقد الاجتماعي لتأسيس مشروعية السلطة والسيادة وما يحدث في المجتمع السياسي، أي طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وهذه الإشكالية لم تكن ضمن المُفكر فيه لدى المفكرين في القرن السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر، حيث كان اهتمامهم منصبا على تأكيد أن الدولة هي نتاج بشري باتفاق الأفراد فيما بينهم، وأن الملك يجب أن يحكم لخير هذه الجماعة.
كان الغرض من التنظير لنشوء المجتمع السياسي هو غرض سلبي يتمثل في مقاومة طغيان السلطة السياسية فقط، ولم يكن غرضا إيجابيا هدفه تأسيس السيادة الشعبية ـ وهي المهمة التي ستكون على عاتق فلاسفة العقد الاجتماعي بعد عقود قليلة ـ.
أصبحت نظرية العقد تقوم بوظيفة أيديولوجية وهي الحد من سلطة الملك بالوقوف في وجه الملكية المطلقة القائمة على ما عرف بنظرية الحق الإلهي للملوك، وهي نظرية تقرر أن الملوك يستمدون سلطتهم من الله وبالتالي فهم مسئولون أمامه وليس أمام الناس، ومن هنا ستكون وظيفة العقد الاجتماعي هي جعل الملوك مسؤولين أمام الناس.
وتطلبت هذه العملية، الانتقال من فكرة العقد الثلاثية في صيغتها الدينية إلى فكرة العقد الثنائية في صيغتها السياسي: في الحالة الأولى، كان العقد بين ثلاثة أطراف، هم الله والملك والشعب، أما في الحالة الثانية فقد أصبح العقد بين الملك والشعب فقط.
وسرعان ما جرت عملية قلب أيديولوجي لفكرة العقد الاجتماعي من قبل دعاة الحكم المطلق، الذين اعتبروا أنه بموجب العقد الاجتماعي تنتقل السلطة من الشعب إلى الحاكم مرة واحدة وبهذا، يصبح الحاكم الآمر الناهي والسيد المطلق.
في هذه الفترة ـ النصف الثاني من القرن السادس عشر ـ جرت العودة إلى القانون الروماني من قبل المدافعين عن الحكم المطلق والمناوئين له، فاستحضر فريق عقيدة LEGIBUS SOLUTUS أي ما يرضي الأمير تكون له قوة القانون أو أن الأمير لا يخضع للقانون، في حين استحضر الفريق الآخر عقيدة LEX REGIA أي سلطة الشعب التي تم منحها للملك مقابل الحفاظ على الخير العام.
وسط هذا الجدال، أسس صاحب اللفيثان توماس هوبس نظرية العقد الاجتماعي ليستخلص ويشرعن منها الدولة الاستبدادية المنوط بها إنهاء حالة الحرب وإحلال السلام.