قضايا وآراء

بعد سقوط لائحة سحب الثقة.. أين يتجه المشهد السياسي التونسي؟

بحري العرفاوي
1300x600
1300x600

1 ـ لائحة عبير موسي والآخرون لواحق

رغم أن لائحة سحب الثقة كان قد تقدم بها لمكتب مجلس البرلمان التونسي كل من نواب التيار الديمقراطي وحركة الشعب وتحيا تونس وكتلة الإصلاح، حيث حصل النصاب القانوني لعرض أي لائحة (73 صوتا)، إلا أن "المشروع" لا يمكن أن يُنسَب لتلك الأحزاب لأن الفكرة كانت منذ البداية صادرة عن الحزب الدستوري الحر، حيث كانت رئيسته عبير موسي هي التي توعدت رئيس البرلمان منذ أشهر بسحب الثقة منه وتجريده من رئاسة البرلمان، بل وأكثر من ذلك هي التي تخوض معركة شرسة ضد حزب حركة النهضة وتحرض على حله ومحاكمة قياداته وهو الحزب الأول في البلاد منذ بداية المسار الديمقراطي في 2011.

كل من حركة الشعب والتيار الديمقراطي وتحيا تونس هي أحزاب شريكة للنهضة في الائتلاف الحكومي برئاسة الفخفاخ، لماذا اصطفت مع دعوة عبير موسي لسحب الثقة من رئيس البرلمان وهو زعيم حزب شريك لهم في الحكم؟ لماذا قبلوا بأن يكونوا "حلفاء" لحزب محسوب على أعداء المسار الديمقراطي وأشواق الثورة؟

مهما يكن مستوى الخلاف بين تلك الأحزاب وحركة النهضة فإن تقديمهم لعريضة سحب الثقة من رئيس البرلمان لا يمكن أن يُنظَر إليه خارج الهجوم السياسي والإعلامي الذي تشنه عبير موسي على الغنوشي ولا يمكن استبعاد أي تأويل لسلوك تلك الأحزاب كونه سلوكا تابعا لرغبة زعيمة الحزب الدستوري الحر.

2 ـ عبير موسي تشق المشهد السياسي شطرين

لا علاقة للسياسة بالعواطف والنوايا الحسنة، ومع ذلك فقد شعر الكثير من التونسيين بخيبة ومرارة وهم يتابعون اصطفافا عمليا واقعيا بين قوى محسوبة على الثورة وقوى محسوبة على أعدائها، لقد استطاعت عبير موسي فعلا شقّ المشهد السياسي عموديا وأفقيا حين اجتذبت إليها قوى مهمة هي في نظر الكثيرين مراقي أشواق الثورة ووقود الإصلاح وإرادة محاربة الفساد، موقف التيار الديمقراطي وحركة الشعب لا ينظر إليه عموم التونسيين على أنه موقف نابع من تناقض إيديولوجي مع حركة النهضة بل ينظرون إليه على أنه اصطفاف مع طرف معاد للمسار الديمقراطي ومنتج لخطاب الكراهية والاستئصال والحنين إلى قبضة الاستبداد. 

 

مع الأسف المشهد السياسي التونسي اليوم فيه قليل من الحكمة والعقل والسياسة، وكثير من الأحقاد والكراهية والحرب، وهي أجواء لا يمكن أن يُحسَم فيها الأمر لصالح أي طرف ولا يُمكن أن يَسلم فيها طرف ـ مهما كان قويا ـ من أذى الأطراف الأخرى.

 



ليس في صالح المسار الديمقراطي ولا في صالح حركة النهضة ذاتها خسارة الحزبين المحسوبين على الثورة لمكانتهما السياسية ولصدقيتهما ومبدئيتهما وهما علامتان مميزتان في التجربة التونسية لكونهما ظلا يعبران عن تناقضهما مع المنظومة القديمة ومع الفساد.

لقد خسرت التجربة الديمقراطية منذ سنة تقريبا مكونات الجبهة الشعبية ويُخشى بعد "هزيمة" لائحة سحب الثقة أن تخسر الساحة هذين الحزبين بسبب ما فهمه التونسيون من كونهما تحالفا مع أعداء المسار الديمقراطي واصطفا إلى جانب خطاب الاستئصال، وللتذكير فإن الجبهة الشعبية التي كانت لها كتلة محترمة في البرلمان التونسي بعد انتخابات 2014 لم تحصل على أي مقعد في انتخابات 2019 بسبب خطابها الإقصائي المشحون كراهية وحقدا واستعلاء خاصة تجاه أكبر حزب في البلاد وهو حزب حركة النهضة.

كل ما ستجنيه لائحة سحب الثقة من الغنوشي من "مكاسب" سياسية محتملة لن يكون إلا لصالح عبير موسي الخصيم اللدود للرجل ولحركته ولن يكون للتيار الديمقراطي ولحركة الشعب من مكسب سوى وصمهما بالتبعية للحزب الدستوري الحر.

3 ـ قراءة في نتيجة التصويت، 97 صوتا ليس هينا

عادة يقال إن السياسة في نتائجها، ونتيجة التصويت صبيحة 30 تموز (يوليو) 2020 كانت سقوط لائحة سحب الثقة من رئيس البرلمان التونسي الأستاذ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة. كانت لحظة بطعمين: طعم الانتصار لدى أنصار الغنوشي، وطعم الهزيمة لدى خصومه.

اعتبار سقوط لائحة سحب الثقة انتصارا هو تعبير عن حالة نفسية له مبرراته بالنظر إلى حملات التحريض والوعيد وغرائز الشماتة التي أبداها خصوم النهضة، ولكن العقل البارد اعتبر أن الديمقراطية هي التي انتصرت يومها حين احتكم النواب إلى الصندوق وليس إلى العنف.

طبعا هذا حكم "لحظة" عابرة، وهو حكم انطباعي، في حين نحتاج قراءة هادئة موضوعية عميقة لما حصل ولتداعياته، هل فعلا انتصر الغنوشي وهل فعلا انهزم خصومه؟ وهل المسار السياسي التونسي يحتمل معركة بين قطبين متناقضين؟ وهل تتحمل البلاد مزيدا من تبديد الزمن في الخصومات والصراعات؟ وهل ثمة أمل في عقل رصين يجيد معالجة الأزمة ضمن رؤية سياسية تَسَع كل القوى المستعدة لخدمة تونس تحت عنوان جامع هو "المواطنة"؟

مُفردتا "انتصار" و"هزيمة" هما من قاموس الحروب وهو ما لا ينسجم مع واقع التنافس السياسي وما فيه من "فوز" و"فشل" وما يُتيحه من فرص التدارك والتجاوز والنقد الذاتي ونقد المنافسين، في السياسة ننتهي غالبا إلى التشارك، ولكن في الحروب ننتهي إلى تسويات بين غالب ومغلوب.

نحن بحاجة إلى تحديد طبيعة "المعركة" بين الأحزاب، هل هي معركة بدائل ورؤى ووجهات نظر وتقديرات سياسية، أم إنها معركة بقاء يقتضي زوال طرف لبقاء نقيضه؟ التوصيف الأول يُحفّز العقول على الإبداع والإنتاج والنقد والتجديد، أما التوصيف الثاني فيُحفّز الغرائز على الحقد والكراهية وإضمار الشر وابتداع طرائق الإيذاء والتشويه والتحريض.

4 ـ الديمقراطية أولا، والديمقراطية دائما

مع الأسف المشهد السياسي التونسي اليوم فيه قليل من الحكمة والعقل والسياسة، وكثير من الأحقاد والكراهية والحرب، وهي أجواء لا يمكن أن يُحسَم فيها الأمر لصالح أي طرف ولا يُمكن أن يَسلم فيها طرف ـ مهما كان قويا ـ من أذى الأطراف الأخرى.

صبيحة 30 تموز كان المشهد في ظاهره ديمقراطيا لكون الحسم في لائحة سحب الثقة تم عن طريق الصندوق وليس عن طريق العنف، غير أنه علينا حُسن قراءة العدد 97.

تصويت 97 نائبا بـ "نعم" لسحب الثقة من رئيس البرلمان من مجموع 217 نائبا ليس رقم هينا، ولا يجب النظر في الرقم باعتباره "رقما" بل باعتباره أشخاصا هم نواب شعب، وباعتباره وجهات نظر ومواقف ومصالح ونوايا ومشاعر، ليس هينا أن يكون رئيس البرلمان التونسي مدعوا لمغادرة كرسيه من طرف أكثر من 44 في المائة من مجموع النواب، هذا العدد كانت نواة انطلاقه كتلة بـ 16 نائبا فقط ولكن بفعل أجواء الشحن والتحريض وأسلوب تحريك المشهد تضخم العدد ستة مرات ولا يُستبعد أن يرتفع في مناسبات قادمة ما دامت الأجواء السياسية على نفس الحال من التوتر والسخونة و"التهريج" والتحريض.

حماية المسار الديمقراطي تحتاج أولا إيمانا بالديمقراطية، وتحتاج ثانيا قدرة على تحمل خدوش الطريق فيها وإليها، وتحتاج دائما تحمل المسؤولية تجاه الوطن وتجاه الناس.

ردات الفعل الغرائزية تجاه المخالفين والمنافسين والخصوم ليست من السياسة وليست من المسؤولية وليست من الشجاعة، نحن مدعوون إلى تجنب أسلوب الانتصار لأنفسنا حين يكون "انتصارا" بطعم "التشفي" وحين لا يكون انتصارا للمستقبل حين سيسأل أحفادنا: من أجل ماذا كان يتصارع الساسة عقودا بينما كان الوطن يغرق في الفقر والبطالة والتبعية؟

التعليقات (0)