قضايا وآراء

سليمان الحلبي ويعقوب.. القضية واضحة!

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
توقع كثيرون أن تعود جمجمة الشهيد سليمان الحلبي الموجودة في متحف الإنسان بقصر شايو بباريس مع جماجم الشهداء الجزائريين (24 شهيدا) الذين عادوا إلى تراب وطنهم يوم 3 تموز/ يوليو، في الذكرى الـ58 لاستقلال الجزائر. وسواء كانت عودة الشهيد سليمان إلى الجزائر مع إخوانه الشهداء حضورا ودفنا أم إلى مصر، أو حتى إلى سوريا، فنحن أمام شهيد عربي حر قام بعمل بطولي ضد مغتصب لقطعة من وطنه الكبير.. لكن هذا لم يحدث، بل إن الموضوع نفسه لم يثر وكأنهم اجتمعوا على ألا يفتحوا الموضوع من أساسه! رغم أن الحالة الوجدانية والقومية التي كان عليها كل العرب والمسلمين وهم يشاهدون عودة الشهداء؛ كانت ستتضاعف أضعافا مضاعفة وهم يرون عودة جمجمة سليمان الحلبي، والتى لا زالت قابعة في مكانها في المتحف ومكتوب تحتها: "جمجمة المجرم سليمان الحلبي"، وما كان مجرما، بل كان قتلته الذين بغوا وهدموا ونهبوا وقتلوا ومعهم أحفادهم الذين كتبوا تلك الجملة الكذوبة هم المجرمون.

وصف الشهيد البطل بالإجرام سفالة وانحطاط وعنصرية حقيرة، وانتهاك لكل القيم الإنسانية العليا في الحق والحرية والكرامة، ورفض الخنوع والمذلة. وكل تلك القيم التي ما كان الإنسان ليكون إنسانا إلا بها، وإذا جاز لسليمان الشهيد أن يوصف بهذا الوصف فهو ما يوصف به شارل ديجول نفسه، وكل مجموعات "الماكيز" من رجال ونساء مسلحين قاوموا احتلال ألمانيا لبلادهم.. بل ويوصف به أيضا المقاومون الفرنسيون الأربعة الذين نقلت رفاتهم عام 2015 إلى مقبرة العظماء في مبنى البانتيون في باريس، في احتفال مهيب وقتها (بروسوليت وجان زاى جنفييف، ابنة أخت ديجول، وجيرمين رفيقتها في معسكر الاعتقال النازي للمقاومة).. وهولاند رئيس فرنسا وقتها ألقى كلمة في الاحتفال قال فيها: "هاتان المرأتان وهذان الرجلان يجسدان روح المقاومة في وجه الاحتلال والرضوخ".

بعد اعتقال سليمان الشهيد تم التحقيق معه والحكم عليه خلال أربعة أيام فقط وحرقت يده اليمنى وأُعدم على خازوق (17 حزيران/ يونيو 1800) وترك فوقه حتى تأكله الطير. وكل ذلك علنا أمام الناس وفور الانتهاء من جنازة المغتصب "كليبر" مباشرة.

قتل الشهيد سليمان لكليبر كان ضربة هائلة للاحتلال الفرنسي في مصر، ويكاد يكون يوم مقتله هو التاريخ الحقيقي لإنهاء هذا الاحتلال الذي استمر ثلاث سنوات، وباقي المدة كان فقط حالة لملمة جراح.

* * *

وصفه المؤرخ الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" وصفا مخزيا يندى له الجبين، إنه المعلم يعقوب حنا (1745-1801م) ابن ملوى.. علامه سيئة في تاريخ مصر الحديث عامة وفي التاريخ القبطي خاصة.. وأنا إذ أدعو إلى تمثل هذه السيرة العفنة لا أجرح ولا أهين، فقط أذكر وأنبه.. فقد تكون سيرة الجنرال يعقوب لها قربى في سيرة بعضهم ممن لا يرون أبعد من مواطئ أقدامهم، ويبقى التاريخ هو المقياس الحقيقي الذي يقيس به كل عاقل نفسه..

يقول الجبرتي في وصفه للجنرال يعقوب: "وأطلق يعقوب يد أتباعه من النصارى في البلاد ليعيثوا فيها فسادا واستبدادا، وعيّن لذلك رجلا نصرانيا قبطيا يسمى شكر الله.. فنزل بالناس منه ما لا يوصف.. فكان يدخل إلى دار أي شخص لطلب المال وصحبته العسكر من الفرنساوية والفعلة، فيأمرهم بهدم الدار إن لم يدفعوا له المقرر وقت تاريخه من غير تأخير، إلى غير ذلك من أفعال..".

وحين قامت ثوره القاهرة الثانية (20 آذر/ مارس 1800) قاتل المعلم يعقوب إلى جوار الفرنسيين بهمّة عظيمة أثارت تقدير كليبر شخصيا، وكلفه بتشكيل الفيلق القبطي وتولي قيادته، ليكون هذا الفيلق جزءا من الجيش الفرنسي داخل مصر، ومنحه درجه جنرال. وبالفعل جمع يعقوب حوالي 2000 قبطي من الصعيد وأحضرهم إلى القاهرة، وارتدوا الملابس العسكرية الفرنسية وانخرطوا في الجيش الفرنسي!!

د. شفيق غربال ود. لويس عوض وعدد من الباحثين الأقباط يرون أن المعلم يعقوب كان بطلا وطنيا!! وأنه حاول استغلال "اللحظة السانحة" لتحقيق الاستقلال الوطني لمصر عن الدولة العثمانية حتى تكون مصر للمصريين.. هذا استخفاف سخيف بحقائق التاريخ، ففكرة الدولة القُطرية المستقلة لم تكن من أفكار ذلك الوقت ولم تكن مطروحة أصلا، وحتى إن حدث ذلك فلا يكون على أيدي غزاة من بقايا الحروب الصليبية القديمة!

تأمل قول د. غربال في كتابه "بداية المسألة المصرية وظهور محمد علي": "إن التاريخ لا يسجل إلا لمصري واحد من أهل هذا العصر فضّل اعتبار الاحتلال الفرنسي لا فترة سيئة يرجى زوالها وعودة ما سبقها، بل بدء حياة جديدة لمصر والمصريين مهدت لها الحملة الفرنسية".

أحيانا يكون المثقف مثل الذبابة التي وقعت في قعر زجاجه، فيجعل يتخبط في كل اتجاه عسى أن يجد مخرجا لما لا مخرج له. أكثر الأقباط رفضوا موقف المعلم يعقوب واعتبروه موقفا شاذا، ولا يعبر بحال من الأحوال عن عموم شعب الكنيسة المرقسية.. بطريرك الكنيسة وقتها البطريرك "مرقس الثامن"، والذي كان يوصف بالبابا المعلم ذي القلب الشفاف والعقل المتزن؛ رفض رفضا باتا موقف يعقوب وفيلقه، وهي الرؤية التي إن لم تكن تعكس شعورا حقيقيا بـ"الوحدة والانتماء" فهي فطنة ووعي.

غادر الجنرال يعقوب مصر في 12 آب/ أغسطس 1801م مع الاحتلال الفرنسي، ومات وهو على ظهر الباخرة، ووضعوا جثمانه في برميل من الخمر إلى أن وصلوا إلى مرسيليا ودفن هناك.

سليمان الحلبي، طالب الأزهر الحلبي المولد، قدم روحه فداء لإنقاذ وطنه وأمته.. يعقوب حنا، المصري المولد، كوّن فيلقا عسكرىا لخيانة وطنه وأمته..

أتذكر جملة ناجي العلي، رسام الكاريكاتير الشهير، والتي قيلت كثيرا بعده: أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)