صحافة دولية

وثائق: بريطانيا حاولت إقصاء بلدان مسلمة عن مؤتمر سربرنيتسا

ما تزال بعض الأوراق الرسمية البريطانية محظورة بحجة الحفاظ على الأمن القومي- جيتي
ما تزال بعض الأوراق الرسمية البريطانية محظورة بحجة الحفاظ على الأمن القومي- جيتي

نشر موقع بريطاني، وثائق عن محاولة من المملكة المتحدة، إقصاء دول إسلامية، عن مؤتمر للرد على مذبحة سربرنيتسا في البوسنة قبل 25 عاما.

 

وبحسب تقرير موقع "ميدل إيست آي"، الذي ترجمته "عربي21"، فإن الوثائق التي رفع الحظر عن تداولها تكشف عن تفاصيل الجهود البريطانية لإقصاء تركيا والأردن عن اجتماع لمناقشة الأزمة في حينها، وعن مخاوف من أن يؤثر التلاوم بشأن البوسنة على التجارة مع الدول العربية.

 

وتاليا النص الكامل للتقرير كما ترجمته "عربي21": 
 
تكشف أوراق تم مؤخرا رفع الحظر عن تداولها عن أن الحكومة البريطانية سعت إلى إقصاء عدد من البلدان المسلمة عن مؤتمر دولي تمت الدعوة إليه بعد الاستيلاء على سربرنيتسا، البلدة البوسنية المسلمة، قبل خمسة وعشرين عاماً.
 
وكان ما يقرب من ثمانية آلاف رجل وغلام بوسني مسلم قد قتلوا على مدى أحد عشر يوماً بعدما تخلت قوات حفظ السلام الهولندية التابعة للأمم المتحدة عن البلدة يوم الحادي عشر من تموز/ يوليو 1995، في آخر جريمة إبادة عرقية ترتكب في أوروبا.
 
بينما كانت تجري عمليات القتل، كانت الحكومة البريطانية في غاية القلق حرصاً منها ألا يتم جر قوات حفظ السلام التابعة لها داخل البلد إلى مواجهة مع قوات صرب البوسنة الذين كانوا يرتكبون الجريمة، وذلك بحسب ما تكشفه الوثائق.
 
جرت محاولات لمنع كل من الأردن وتركيا من حضور المؤتمر في لندن والذي كان الغرض منه إيجاد حل، وذلك على الرغم من أن البلدين قدما كلاهما عدداً كبيراً من القوات للمشاركة في قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في المنطقة.
 
ولكن لندن كانت تشعر بحساسية تجاه الاتهامات الواردة من بلدان مسلمة مفادها أن البلدان الغربية كانت تقف متفرجة ولا تحرك ساكناً لحماية المدنيين العزل.
 
في السادس عشر من تموز/ يوليو، في منتصف الفترة التي كانت ترتكب فيها المجزرة تقريبا، تلقى رئيس الوزراء البريطاني جون ميجور مذكرة من إدوارد أوكدين، سكرتيره الخاص للشؤون الخارجية، تضمنت التحذير التالي: "يجب ألا نسمح لأنفسنا بأن نبدو مسؤولين عن هزيمة البوسنة (حيث سيكون لذلك تداعياته على وضعنا التجاري إلخ في العالم العربي)."
 
تظهر النسخة من هذه المذكرة، والتي يحتفظ بها في الأرشيف الوطني البريطاني وأتيح الاطلاع عليها للعموم، بأن شخصاً ما داخل مكتب رئيس الوزراء في داونينغ ستريت وضع على هذه النقطة علامة بقلم الرصاص.
 
هولوكوست ثان
 
في نفس ذلك اليوم، أرسل السفير البريطاني في عمان، بيتر هينشكليف، برقية إلى وزارة الخارجية في لندن، يخبرهم فيها بأن الملك حسين دعا في اليوم السابق سفراء الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي – روسيا، الصين، فرنسا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة.
 
قال هينشكليف إن الملك "تكلم بحرقة شديدة" وهو يتحدث عن شعوره بالعار لمشاهدة حدوث "هولوكوست ثان".
 
في وقت متأخر من ذلك اليوم حذرت السفارة البريطانية في الرياض من أن منظمة المؤتمر الإسلامي قالت بأنها "مرعوبة من الأحداث الأخيرة في البوسنة" وأنها تتوقع من المملكة المتحدة اتخاذ إجراء حاسم لوقف التطهير العرقي.
 
في تلك الأثناء كانت الصحف السعودية تعرب عن ارتيابها في تواطؤ المجتمع الدولي في الإبادة العرقية، حسبما جاء في تقرير السفارة.
 
وفي تحرك يبدو أنه تم التنسيق له مع الأردن، استدعى وزير الخارجية المصري عمرو موسى سفراء الدولة الخمس دائمة العضوية في القاهرة في نفس ذلك اليوم ليقول لهم إن "الأمم المتحدة تعرضت للمهانة" وأن "المجتمع الدولي لا يمكنه ولا ينبغي له أن يقف متفرجاً."
 
وقال عمرو موسى إن الإخفاق في وقف صرب البوسنة يتناقض بشكل سافر مع الإجراء الغربي ضد ليبيا والعراق. وأبلغ السفير البريطاني دافيد بلاذريك لندن بأن موسى كان "منفعلاً ومحبطاً" وأنه حذر من أن مصر قد تبدأ في تسليح المسلمين في البوسنة إذا أخفق الغرب في التدخل.
 
قوات حفظ السلام الهولندية "قامت بواجبها"
 
كانت القوات الهولندية جزءاً من قوة لحفظ السلام تعدادها 20 ألفاً وفدت من أكثر من ثلاثين بلداً حول العالم لتشكل قوة حماية تابعة للأمم المتحدة في البوسنة عرفت اختصاراً بكلمة أنبروفور.
 
وكانت الأمم المتحدة قد صنفت سربرنيتسا على أنها واحدة من ستة "ملاذات آمنة" كان السكان، وهم في الأغلب من المسلمين، بحاجة فيها للحماية.
 
إلا أن القوات الهولندية تخلت عن البلدة وعن القرى المجاورة لها وانسحبت إلى ثكناتها بعد أن أخذ صرب البوسنة خمسين من أفرادها رهائن وهددوا بإعدامهم.
 
وعلى الرغم من إدراكها أن قوات صرب البوسنة كانت تعدم الرجال من مسلمي البوسنة، قال بعض الجنود الهولنديين إنهم ساعدوا في فصل الرجال المسلمين عن النساء.
 
وفي مساء الخامس عشر من تموز/ يوليو، اتصل ميجور برئيس الوزراء الهولندي ويم كوك ليقول له إنه غاضب من تصريحات أدلى بها الرئيس الفرنسي جاك شيراك وصف فيها على الملأ القوات الهولندية بالجبن.
 
وفي اليوم التالي كتب وزير الخارجية البريطاني مالكولم ريفكيند إلى كوك يقول له: "تعتبر المملكة المتحدة أن قوات حفظ السلام الهولندية قامت بواجبها بشكل رائع وبشجاعة عظيمة، ويحق لهولندا أن تفخر بهم."
 
وفي الحادي عشر من تموز/ يوليو، انسحبت القوات الهولندية إلى زغرب، حيث نظموا حفلة في وقت لاحق.
 
بعد استيلائهم على سربرنيتسا، استولت قوات صرب البوسنة مباشرة على "ملاذ آمن" آخر في زيبا وهددت بمهاجمة ملاذ آخر في غورازده.
 
بعد ذلك قدرت الأمم المتحدة أن ما يقرب من عشرين ألف شخص قتلوا في المناطق المحيطة بالملاذات الآمنة التي أقامتها.
 
تشير الوثائق التي رفع الحظر عن تداولها إلى أن الحكومة البريطانية كانت قلقة جداً من احتمال تعرض غورازده للهجوم حيث كان يتخذ 350 فرداً من كتيبة المشاة الويلزية مقراً لهم.
 
عملية المفك
 
قدرت لجنة الاستخبارات المشتركة التابعة للمملكة المتحدة أن صرب البوسنة بإمكانهم شن هجوم على غورازده خلال أيام وأن البلدة ستسقط في أيديهم خلال أقل من أسبوعين بعد ذلك.
 
خلال الأسبوع الذي تبع سقوط سربرنيتسا، أرسل مايكل بورتيلو، الذي كان قد عين لتوه وزيراً للدفاع في بريطانيا، خطاباً إلى ميجر قدم له فيه تفاصيل خطة أطلق عليها "عملية المفك" وهدفها إخلاء الجنود الويلزيين.
 
كان من المقرر أن يتم الإخلاء أثناء الليل باستخدام ثلاثين مروحية ستمكث على الأرض 15 دقيقة فقط، وكان لابد من حصول خطة الإخلاء على موافقة القادة العسكريين التابعين للأمم المتحدة، علماً بأن الإخلاء سيتم فقط في حال ما بدأت قوات حفظ السلام البريطانية تتكبد خسائر.
 
بعد ساعات قليلة، كتب رئيس القوات المسلحة البريطانية بيتر إنج إلى رئاسة الوزراء وإلى وزارة الدفاع ليخبرهم عن لقاء حضره في اليوم السابق مع نظرائه في القوات الأمريكية والفرنسية جون شاليكاشفيلي وجاك لانكساد.
 
ونصح إنج بأنه فيما لو شن صرب البوسنة هجوماً على غورازده فإن الخيار الأفضل هو "السعي نحو الانسحاب بكرامة من خلال التفاوض كما فعل الهولنديون". ثم ستحتاج بريطانيا إلى أن تقرر ما إذا كانت ستنضم إلى الفرنسيين في الدفاع عن العاصمة البوسنية المحاصرة، سراييفو.
 
ولما كان الصراع يحظى بتغطية واسعة في وسائل الإعلام حول العالم، تُظهر الأوراق أن الزعماء الغربيين كانوا على درجة عالية من الحساسية تجاه الرأي العام.
 
ففي خضم الكم الهائل من البرقيات والرسائل والمحادثات الهاتفية بين واشنطن وباريس ولندن، سجل لطوني ليك، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، أنه قال للسكرتير الخاص لجون ميجور، رودريك لين، إنه ما كان ليرغب في التدخل لإنقاذ غورازده.
 
"خياره المفضل سيكون رسم خط عند سراييفو، ولكنه يخشى نتيجة لما آلت إليه الأمور أن يكون الخط المرسوم في واقع الأمر عند غورازده: فالسي إن إن والرأي العام سيفرض ذلك علينا."
 
في اليوم التالي أخبرت واشنطن لندن أنها تفضل شن حملة قصف مكثفة لإنهاء عدوان صرب البوسنة.
 
وتظهر الأوراق التي رفع الحظر عن تداولها أن البريطانيين كانوا يعتقدون بانقسام الحكومة الفرنسية بين شيراك الذي كان يرغب في القيام بمزيد من الإجراءات القوية – انسجاماً مع توجه الرأي العام الفرنسي – ورئيس وزرائه ألان جوبير، الذي كان يرغب في سحب قوات حفظ السلام الفرنسية.
 
بينما يتم وصف الجيش الفرنسي بأنه صقوري، إلا أن الوثائق كثيراً ما تندد بالتصريحات العامة التي كانت تصدر عن كل من شيراك وكلينتون باعتبارها "مجرد تظاهر".
 
كما تبين الأوراق أن البريطانيين – مثلهم مثل الفرنسيين – كانوا حريصين على تجنب أن يوجه إليهم اللوم على سقوط الملاذات الآمنة وارتكاب المذابح بحق سكانها.
 
قلق بشأن "التحيز ضد المسلمين"
 
بعد أن قرر ريفكيند الدعوة إلى مؤتمر في لندن للاتفاق على رد دولي على الأزمة، قررت وزارته أنه بينما ستدعى بنغلاديش للحضور، كونها قدمت قوات لحفظ السلام، لن تتم دعوة الأردن وتركيا.
 
وفي برقية صادرة عن وزارة الخارجية، وجه ريفكيند تعليمات إلى سفرائه بأن "يفندوا بقوة أي مزاعم بوجود تحيز ضد المسلمين" فيما لو سئلوا لماذا لم تتم دعوة "دول إسلامية أخرى ساهمت بقوات" لحفظ السلام.
 
كتب ريفكيند يقول: "إذا ما سئلتم، فليس وارداً حالياً إرسال دعوات إضافية إلى بلدان أخرى."
 
حذرت سفيرة بريطانيا في أنقرة، كيران بريندرغاست، وزارة الخارجية ضد إقصاء تركيا عن المحادثات، وحذرت من أن العالم الإسلامي سيعتقد أنه تم إقصاؤهم لأنهم مسلمون. "إن هذه مناسبة سيكون من الأفضل فيها أن يتواجدوا داخل الخيمة."
 
ومن القاهرة، حذر السفير دافيد بلاذرويك كذلك من أن ثمة حاجة إلى مشاركة المسلمين في المؤتمر.
 
ومن عمان، أشار بيتر هينشكليف إلى أن الأردن كان ثالث أكبر مساهم بقوات حفظ السلام في البوسنة، بعد فرنسا والمملكة المتحدة، بما يقرب من 2500 رجل.
 
وكتب يقول إن الأهم من ذلك هو أن الأردن "لم يخضع لنزوة رؤية الصراع ضمن سياق المعاداة للمسلمين"، بل هو مدرك لما يواجهه الغرب من مشاكل.
 
ولكن بالرغم من كل ذلك ظلت وزارة الخارجية مصرة على أنها لم ترغب في وجود لا تركيا ولا الأردن، وذلك بهدف الحد من الضغوط التي قد تطالب بمواجهة مع صرب البوسنة.
 
فقد أبلغت وزارة الخارجية سفراءها بما يلي: "لا نفضل دعوة تركيا إلى اللقاء الدولي يوم الحادي والعشرين من يوليو / تموز. فتركيا ليست بأي حال من الأحوال المساهم الوحيد بقوات في البوسنة ويتم استثناؤها من الاجتماع الدولي في لندن. نحن نقدر أن الأردنيين هم من أكبر المساهمين لقوات حفظ السلام الدولية ومازالوا أكثر تفهماً لوضعنا من غيرهم من الدول الإسلامية. ولكن جميع القوات الأردنية تقريباً موجودة في كرواتيا، بينما الاجتماع الدولي سيركز على البوسنة. فلن يكون معقولاً ولا عملياً عقد اجتماع تشارك فيه جميع الدول التي تساهم بقوات."
 
في نهاية المطاف، تمت دعوة تركيا للمشاركة في اللحظة الأخيرة بعد أن صدرت عنها سلسلة من الاحتجاجات العنيفة. أما الأردن فلم يدع للمشاركة.
 
ونتيجة للمؤتمر منحت الأمم المتحدة القادة العسكريين لقوات أنبروفور (القوات الدولية لحماية البوسنة) بمطالبة الناتو بشن ضربات جوية، وبدأ الناتو في الشهر التالي هجمات قصف واسعة النطاق، فرضت على قوات صرب البوسنة القدوم إلى طاولة المفاوضات.
 
بعد ستة عشر عاماً، ألقي القبض على القائد العسكري لقوات صرب البوسنة راتكو ملاديتش وأرسل إلى لاهاي حيث أدين بارتكاب إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة.
 
أما رادوفان كاراديتش، رئيس جمهورية صرب البوسنة، فألقي القبض عليه في عام 2008، وأدين هو الآخر بجرائم ضد الإنسانية وبالإبادة الجماعية في سربرنيتسا، وحكم عليه بالسجن المؤبد.
 
على الرغم من مرور خمسة وعشرين عاماً إلا أن بعض الأوراق الرسمية البريطانية مازالت محظورة بحجة الحفاظ على الأمن القومي.

التعليقات (0)