مقالات مختارة

حمدوك.. آذانٌ في مالطا

ياسر محجوب الحسين
1300x600
1300x600

طلب رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك من بعض أعضاء حكومته تقديم استقالاتهم بعد أقل من عشرة أيام من ما عرف بمليونية 30 يونيو.

وقد كانت تظاهرات ضخمة طالبت بتصحيح مسار الثورة التي كانت ثمرتها سلطة انتقالية على أنقاض حكومة نظام الرئيس السابق عمر البشير، والتي تضم جهازا تنفيذيا يرأسه حمدوك.

بيد أن رياح الفترة الانتقالية لم تأت بما تشتهي سفينة حمدوك فأتاها الموج من كل حدب وصوب، فغرقت كليا في بحر الأزمة الاقتصادية، فهبت الجماهير التي ثارت على البشير لذات السبب تطالب بالتصحيح ووقف الغلاء المعيشي ومثلت تلك المليونية استفتاء سياسيا أسقط حكومة حمدوك بشكل عملي.

لكن حمدوك انتظر نحو عشرة أيام ليستوعب هذه الحقيقة بشكل جزئي وليس بشكل كامل؛ فبينما طالب 7 من وزرائه بتقديم استقالاتهم نسي أن حجم الفشل يقتضي استقالة الحكومة بأكملها دون أن يُستثنى من ذلك رئيس الوزراء نفسه.

وهكذا بدا حمدوك "كمن يؤذن في مالطا" وحاله كحال ذلك المؤذن الذي رفع الأذان في غير وقته فلم يجبه أحد ثم أقام الصلاة وحيدا.

في اجتماع طارئ لمجلس الوزراء دعا له حمدوك أمس الأول تحدث الرجل عن الحاجة لتقييم أداء الحكومة استجابة لرغبة الشارع الذي خرج في مليونية 30 يونيو وقال إن الأمانة التي حمَّلها الشعب لحكومة الفترة الانتقالية، تلزمنا بالاستماع والإنصات إلى صوت الشارع ومطالب الثوار.

مضيفا أنه قرر إجراء تعديل وزاري محدود في حكومته، بعد تقييم شامل ودقيق لأداء الجهاز التنفيذي، استجابة للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة.

وطالب وزراء الخارجية، والمالية، والطاقة، والزراعة، والنقل، والثروة الحيوانية، والصحة بالاستقالة.

وبينما قدم 6 وزراء استقالاتهم رفض وزير الصحة تقديم استقالته ودخل في مشادة كلامية مع حمدوك الذي اضطر لإصدار قرار بإقالته.

وربما كان هذا الوزير أكثر شجاعة في التعبير عن أن الفشل لا يجب أن يتحمله البعض بينما يسقط عن الباقين بما في ذلك رئيس الحكومة.

إن تحميل الفشل لبعض الوزراء لا يبدو منطقيا وعادلا؛ فإن كان بسبب سياساتهم في إطار وزاراتهم فإن سياساتهم وخططهم يفترض أنها أجيزت من قبل مجلس الوزراء بعد نقاشها بدقة، وبالتالي فهي معبرة عن إرادة جامعة ولم تكن أعمالا فردية.

وعليه فإن إقالة وزراء بعينهم بسبب تلك السياسات وتحميلهم وزر فشلها أمر غير عادل البتة، فإن ثبت فشل تلك السياسات لاسيما تلك المتعلقة مباشرة بمعاش الناس وهذا ما حدث بالفعل، فإن رئيس الوزراء يتحمل بالضرورة وزر هذا الفشل وبالتالي كان عليه أن يتقدم أولا باستقالته التي تعني بالضرورة ذهاب الحكومة بأكملها مفسحة المجال لحكومة جديدة وليس حكومة مرقعة تعيد إنتاج الفشل.

ولعل رفض وزير الصحة المقال تقديم استقالته يعكس جانبا آخر من أسباب فشل حكومة حمدوك؛ فالرجل الذي يمثل الحزب الشيوعي سبق وأن أعلن مجلس السيادة عن رغبته في إقالته لكن وقوف حزبه بجانبه بقوة أفشل محاولة إقالته في المرة الأولى.

وهذا يؤكد أن حكومة حمدك عبارة عن شركاء متشاكسين وتعبر عن محاصصات حزبية وهو ما خالف الوثيقة الدستورية التي نصت على تشكيل حكومة كفاءات وتكنوقراط وليس حكومة محاصصات حزبية.

إن حمدوك يبدو أنه في سبيل إهدار المزيد من الوقت فلم يكن جاهزا بأسماء بديلة للوزراء الذين أجبرهم على الاستقالة فعمد إلى تكليف أشخاص آخرين بتصريف أعمال الوزارات التي شغرت مما يعني أن الفترة بين الوزراء المغادرين وبدلائهم ستطول وسيعمل ذلك بالضرورة على تفاقم الأزمة المعيشية المتفاقمة أصلا.

وفي الأفق ما يعضد فرضية تأخير إعادة تشكيل الحكومة؛ فهناك حديث عن قرب التوصل لاتفاق مع الحركات المسلحة التي استمرت في موقفها من الحكومة المركزية رغم تغيير النظام في أبريل 2019 ذلك أن وضع السلاح بدون اتفاق لا يضمن لها حصة من السلطة وهذا بيت القصيد.

أما الاتفاق المعلن عنه يفرض على حمدوك انتظاره لأن إعادة تشكيل حكومته بدون اكتمال هذا الاتفاق سيجبره لاحقا على إجراء تعديل آخر لاستيعاب محاصصات الحركات المسلحة.

فالسياسيون المتلهفون للمحاصصة لا تهمهم الأزمة الاقتصادية الخانقة بقدر ما تهمهم مقاعدهم الوزارية المأمولة.

والمشكلة الكبرى حتى لو تم استيعاب الحركات المسلحة التي تقترب من التوقيع على اتفاق مع السلطة الانتقالية نجد أن هناك حركتين مسلحتين لم يضمهما هذا الاتفاق المأمول مما يعني أن الحكومة الجديدة التي ستشكل ستستمر كذلك في التفاوض مع هاتين الحركتين وأن أي اتفاق معهما يعني المزيد من المحاصصة وتوزيع المغانم السلطوية.

وهذا ذات سلوك حكومة البشير السابقة مع معارضيها ومناوئيها وهكذا تدور ساقية جُحا في بلاد أنهكتها وأقعدتها الحروب وأرداها عبث السياسيين.

إن ما رشح عن الاتفاق مع الحركات المسلحة يشير إلى تمديد الفترة الانتقالية التي نصت الوثيقة الدستورية على أنها 39 شهرا، سيبدأ سريانها من جديد من تاريخ التوقيع على الاتفاق وربما تبدأ من جديد مرة أخرى حال التوصل لاتفاق آخر مع الحركتين المتبقيتين.

وهكذا أصبح حال الوثيقة الدستورية التي قيل إنها دستور مقدس للفترة الانتقالية كحال أصنام العجوة التي تعبد وتقدس ثم تؤكل على يدي صانعيها وعابديها.

فهي معرضة باستمرار للانتهاك والتعديل بشكل رغائبي لأجل إشباع نهم السياسيين للسلطة ومقاعدها الوثيرة أما الشعب الذي يزعمون أنهم يتحدثون باسمه فهو في آخر سلم أولوياتهم.

(الشرق القطرية)

0
التعليقات (0)

خبر عاجل