كتاب عربي 21

"لموا كلابكم يا افندم"

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
أحتاج إلى مشاعر "حفار القبور" لكي أستطيع الاستمرار في هذه الأيام، حيث نصحو وننام على مشاهد دفن الأصحاب والأخلاق والأحلام..

قبل أيام تعرضت بشكل مفاجئ وسريع لانتكاسة صحية عنيفة، كنت أعرف أن السبب النفسي هو الفاعل الرئيسي الذي استغل هشاشة وضعي البدني، فقد بدأت أعراض الانهيار الصحي عقب مشاهدتي تسجيل فيديو تتحدث فيه مواطنة ثلاثينية من مصر (الأرملة اليتيمة علا حسن الأمير) تشكو فيه بأعلى صوت لـ"أعلى السلطات" من تحرش جنسي وقانوني يمارسه شرطي تحت حماية "دولة الشرف الرفيع".

كتبتُ إلى رئيس الجمهورية ووزير الداخلية مراهناً على الملاك النائم إلى حين في قلوب القتلة ورجال العصابات وشياطين البشر. ولعل هواة الأفلام يتذكرون دور رشدي أباظة في فيلم "ملاك وشيطان" ليفهموا أنني عندما أخاطب الوحوش، لا أخاطبهم بما هم عليه في لحظة الخطاب، لكن بما يجب أن يكونوا عليه كبشر.

لكن صخرة العجز سقطت فوق قلبي، مع استمرار التجاهل الرسمي (والشعبي أيضاً) لشكوى علا الأمير التي لم تطلب فيها مالاً ولا مسكناً ولا سيارة ولا سريرا فاخرا للعلاج في مستشفى حكومي على نفقة دافعي الضرائب، لكن طلبت بكل لباقة وأدب أن يتركوها في حالها لتعيش بشرفها وفقط: لموا كلابكم عننا يا افندم.

(2)
حتى الآن لا أعرف مصير السيدة المصرية الفقيرة اليتيمة، لأن السلطة ومعها قطاع كبير من نشطاء الميديا الاجتماعية، انشغلوا بقضايا أخرى لا تختلف عن قضية علا الأمير، إلا في الشهرة والوجاهة وجاذبية الترافيك، مثل حملة فضح عنصرية الممثلة إسعاد يونس ضد خادمة فقيرة قد تكون غير واقعية، ومثل قضية تحرش طالب الجامعة الأمريكية بعشرات الفتيات، وهي قضايا مهمة تكشف عن صحوة إيجابية بين الناس وبروز "لوبي شعبي" يستطيع الانتصار في معارك من هذا النوع، حتى لو كان الطرف الآخر من نجوم المال والأعمال، أو من أبناء العائلات المحمية بتحالفات العصبة الاحتكارية التي تحكم المجتمع وتهيمن على مؤسساته في الإعلام والشرطة والقضاء.

(3)
كنت قد خططت لكتابة مقالي عن قصة محمود السيسي وخلفياتها وأغراض حملة الغسيل والنشر التي قام بها الخدم، لكنني لم أقدر على التركيز المطلوب للكتابة في هذا الموضوع بتشعباته. وبعد يومين من التعب خرجت أمس متحاملا على نفسي لإبداء رأيي في الرئيس المصري بعد سبع سنوات من الوعود الكاذبة. ويبدو أن انشغالي بالسؤال عن مصير علا الأمير ومشكلتها كان أكبر من السيسي الأب والسيسي الابن.

فقد سيطرت "شكاوى الفقيرة الفصيحة" على بؤرة تفكيري، لدرجة أنني طرحت سؤالي عن مصيرها في المقابلة، واعتبرته قضية كبيرة ينبغي الحساب عليها، أكثر مما نتحاسب على قيمة الجنيه أمام الدولار أو سعر أسطوانة البوتاجاز، حتى لا تظل أسعار السلع في حياتنا أهم من سعر الإنسان. وكنت كلما استطعت الجلوس إلى مكتبي أكتب اسم المواطنة على محرك البحث لأعرف أي خبر عما حدث لها، لكنني لم أجد إلا الشكوى المكررة التي تدور في دائرة الفراغ..

(4)
تشغلني ظاهرة طرح قضايا معينة وتغييب غيرها، فهذا الأسلوب مفهوم في الإعلام الموجه الذي تسيطر عليه السلطة في مصر، تصدر التعليمات من "موبايل سامسونج" أو على الملأ بتجنب موضوعات وعناوين مقصود تحجيمها، والاهتمام بعناوين وموضوعات مطلوب تضخيمها، لكنني لا أفهم ذلك على الميديا الاجتماعية التي لا تخضع لقرارات المجلس الأعلى للإعلام ولا للتوجيهات "العباسية".

لكن التحليل السريع لكيفية صناعة "التريند" على وسائل التواصل الاجتماعي يشير إلى مشاكل خطيرة في الميديا الجديدة التي تتمتع نظريا بقدر كبير من الاستقلالية والتحكم الذاتي، لكنها من الناحية العملية تبدو خاضعة وتابعة لقوى خفية تدفع رواد الميديا الاجتماعية لتكرار نقس أنماط وانحيازات وأخطاء الإعلام الرسمي الموجه، فالتقليد يغلب على التفكير.

ولعل ظهور تطبيق جديد مثل تطبيق "معمل الصور" يكشف لنا الحجم المذهل والتأطير الطاغي لسلوك المحاكاة، بحيث يغرق "التايم لاين" في وقت قصير بنموذج واحد مكرر من الصور، إضافة إلى المحاكاة في النصوص والمواقف والتوسع في المنشورات المنقولة عن آخرين مع الإشارة لنقلها، وأحيانا سرقتها وانتحالها من غير إشارة!

(5)
اتجاه المحاكاة مفيد في فكرة "الحشد المؤقت" وتسخين قضية الساعة، أو الإعلان عن سلعة، أو الهجوم على شخصية، أو العزاء في ميت مشهور، أو مناداة كل فريق لأنصاره في معركة انقسامية متطرفة، لكنه يعبر عن عدم استقلالية وعن نقص في التفكير، ونقص في التعبير عن الرأي الفردي والهوية الذاتية، أو حتى في الأسئلة الحرة النابعة من الشخص، وليس الأسئلة المصطنعة المسفوحة على صفحات الغير أو التي تفتعلها كتائب التوجيه الخبيث للإلهاء أو التضليل أو إشعال قضية لإطفاء غيرها من القضايا.

(6)
لدي أمثلة ومعلومات كثيرة وددت لو طرحتها للنقاش، لكنني أعلم أن الوقت لا يسمح، والجهد لا يسمح، ولا أقصد من ذلك وقتي ولا جهدي، بل وقت وجهد المجتمع الذي يحتاج مثلي لمشاعر "حفار القبور"، كما شاهده هاملت وهو يغني بينما يطوح بالجماجم التي تصطدم رأس فأسه وهو يحفر القبور لأشياء لا يراها كبشر، إذ يسأله هاملت: هل القبر لرجل؟، فيقول: لا،

يرد هاملت: هو لامرأة إذن؟

يقول الحفار: لا.

وعندما يندهش هاملت يخبره الحفار بأن القبر لشيء كان امرأة، لأنها الآن لم تعد امرأة ولا رجلا.

هكذا صرنا نتعامل مع إنسانيتنا التي صارت شيئا، لا هو رجل ولا هو امرأة، بينما الهاملتيون القلائل يتعذبون ويتألمون وهم يواصلون رحلة العذاب والعجو.. رحلة البحث المؤلم عن العدل والقصاص من القتلة.

وتستمر المأساة.

[email protected]
التعليقات (0)