قضايا وآراء

سبع سنوات عجاف

أسامة جاويش
1300x600
1300x600
مساء الثالث من تموز/ يوليو 2013، كنت أجلس في غرفتي في أحد أفخم المنتجعات السياحية في الأردن، الغرفة ممتلئة عن آخرها بعدد كبير من الأصدقاء من دول عربية مختلفة، العيون كلها تذهب نحو ذلك التلفاز في الغرفة، رفعت صوت التفاز إلى أعلى مستوى وطالبت الجميع بالهدوء، فهناك بيان عسكري الآن من وزير الدفاع المصري.. لحظات وبدأ صوت البكاء يرتفع في الغرفة، مع أدعية من كل صديق أن يحفظ دولته وأهله وشعبه بعد ما حدث في مصر.. إنها النكبة الجديدة كما أسماها أحمد، صديقي الفلسطيني.

كنت في الأردن أحضر مؤتمرا طبيا وقت إذاعة بيان الانقلاب العسكري منذ سبع سنوات، ورغم مرارة الألم الذي شعرت به حينها وانتهاء حلم ثورة يناير أمامي وأنا أشاهد هذا الجنرال الأخرق وهو يعطل الدستور وينقلب على الرئيس، إلا أن ثمة مشهدا آخر لفت انتباهي بشدة.. لم يكن معي في الغرفة وقتها إلا اثنان من الزملاء من مصر، أحدهما توفى منذ اعوام بعد صراع مع المرض، البقية الباقية كانت مزيجا من جنسيات عربية مختلفة من السعودية وفلسطين والأردن والعراق وموريتانيا والجزائر والمغرب، وكان الجميع يواسيني ويواسي نفسه أيضا. سألت أحد الأصدقاء من فلسطين: لماذا حزنت لهذه الدرجة؟ فقال لي: "عندما انتصرت ثورة يناير شعرنا في فلسطين وفي قطاع غزة تحديدا أننا نستطيع التنفس، وعندما فاز الرئيس محمد مرسي شعرنا بأن سنواتنا العجاف قد انتهت، ولكننا الآن نشعر بالاختناق فسنعيش سنوات صعبة".

سبع سنوات عجاف، أكلت وقضت على سنوات الربيع العربي السمان بحياتها القصيرة، وأحلامها الوردية في عيش وحرية وكرامة إنسانية وعدالة اجتماعية وأنظمة ديمقراطية تحترم إرادة شعوبها، استولى فيها العسكر في مصر على مقاليد الأمور، وعاثت فيها أموال السعودية والإمارات فسادا وقتلا وتمويلا لمشروع الثورة المضادة في المنطقة، وتغوّل فيها الاحتلال الصهيوني بأطماعه وخبثه بدعم أمريكي من إدارة ترامب، وأعلنوا صفقة القرن وخطة الضم بالتنسيق مع أمراء ورؤساء وملوك ما عاد لهم من القضية الفلسطينية ودعمها صالح، فما عاد لنا من الربيع العربي وثوراته الآن إلا بقية من وطن داخل السجون أو في المنافي أو يرقد داخل القبور.

في الثاني من تموز/ يوليو من عام 2013، قابل ذلك الفتى خريج كلية الهندسة رفيقة حياته، تقابلا مصادفة ثم ذهب لخطبتها على وقع الانقلاب ورابعة وتطورات الحياة المأساوية في مصر، ولكنهما اختارا طريقهما حتى تم اعتقال الفتى. ومنذ ذلك الحين وهو قابع في زنزانة ضيقة لا يرى شمسا ولا يستنشق هواء نقيا. سألها ذات يوم عن مصطلحات غريبة سمعها أثناء الزيارة، فخرجت تكتب هي عن عزلة المعتقلين بعد انقلاب تموز/ يوليو، وتساءلت عن شكل حياتهم بعد الخروج وكيف سيتقبلون العيش في عالم يملؤه هذا القدر من القبح والظلم والفساد. ومع ظهور كورونا منعوا عنهما الزيارة وتبادل الرسائل، وحرموهما من الاطمئنان على بعضهما البعض، حتى بدأت الأخبار تأتي من داخل محبسه بأن فلان الفلاني قد مات داخل السجن بعد إصابته بكورونا، ولا توجد معلومات أخرى.

سبع سنوات عجاف مرت كأنها سبع قرون على تلك الفتاة وحبيبها المعتقل، تبدلت فيها مصر وتغيرت وانهارت على يد السيسي، ولم يتبدل حبهما أو يتغير شوقهما للقاء أو ينهَرْ الأمل في خروجه من داخل السجن. هذه قصة حقيقية أعيشها مع أبطالها يوميا منذ سبع سنوات، وهي انعكاس واضح وحقيقي لما تعانية آلاف الأسر المصرية منذ سبع سنين.. الزنازين المظلمة التي تهدر من أعمار احبابهم وتأخذ من صحتهم وقوتهم، ولا تزيدهم إلا إصرار وصمودا.

سبع سنوات عجاف، أصبحت فيها "موضة" التعاطف والدعم للرفقاء والأصحاب والخلان، فهذه حملة تدعم معتقلا أمريكيا، وتلك أخرى تدعم ناشطا سياسيا معروفا، ولكن ماذا عن آلاف المجهولين لنا، المعروفين لدى زوجاتهم وأمهاتهم وأبنائهم؟ من يكتب عن هؤلاء داعما ومؤيدا ومطالبا بخروجهم من السجون؟

"تعاطفك لوحده مش كفاية"، كانت جملة إعلانية شهيرة يتم استخدامها في حملات للتبرع لمستشفيات السرطان في مصر، ولكن ما أحوجنا إليها الآن في الدعم والتخفيف عن المعتقلين وأسرهم، لعل الله يأذن بعام قريب فيه يغاث الناس وينهي سبع سنوات عجاف.

twitter.com/osgaweesh
التعليقات (0)