كتب

انطفاء مصابيح الحضارات ودخولها في عصر الظلمات (1من3)

كتاب يشرح أسباب فشل سياسات عبد الناصر في ترسيخ المشروع القومي العربي  (فيسبوك)
كتاب يشرح أسباب فشل سياسات عبد الناصر في ترسيخ المشروع القومي العربي (فيسبوك)

الكتاب: غرق الحضارات
الكاتب: أمين معلوف من الأكاديمية الفرنسية،

ترجمة: نهلة بيضون
الناشر: دار الفارابي ـ بيروت ـ الطبعة الأولى أيلول / سبتمبر2019،
319 صفحة من القطع المتوسط

لا يزال الكاتب أمين معلوف يحلق عاليًا في مجال إبداعه الفكري، لا سيما حين يتحدث في هذا الكتاب الجديد عن المفارقة المحزنة لهذا القرن الحادي والعشرين، بين أن يعيش الجنس البشري في مرحلة جديدة من الثورات التكنولوجية الهائلة، وتوافر لأول مرّة للشعوب والأمم في العالم الثالث فرص الإنتقال إلى عصر من الحرية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي الذي لا تشوبه شائبة، و التحرر من ربقة التخلف كما هو الحال بالنسبة للصين والهند وسواهما، وبين ما نشهده منذ بضع سنوات من الإخفاق الكبير لعصر العولمة الليبرالية المتوحشة، ذات السحنة الإمبريالية، من جراء الانهيارات الكبيرة التي يشهدها العالم والتي أدخلته في عصر جديد من الظلمات، تهدد من جديد بغرق الحضارات. 


تلك هي الصورة التي تقض مضجع الكاتب أمين معلوف منذ سنوات، صورة الغرق لسفينة حديثة، متلألئة، واثقة من نفسها، مشهورة بأنها لا تغرق، مثل التايتانيك، تحمل على متنها أعدادًا غفيرة من الركاب من جميع البلدان و الطبقات الاجتماعية كافة، وتمضي وسط الصخب نحو هلاكها.

ويعَدُّ هذا الكتاب من وحي كتابه السابق "اختلال العالم"، الصادر عن دار الفارابي ببيروت، 2009، والذي تطرق فيه إلى البؤرة الرئيسة لنزاع الهويات الإثنية والقبلية والدينية والمذهبية والجِهَوية الذي ينداح اليوم في جميع أرجاء المعمورة، وهو علة ما نشهده من فوضى وقتل وطغيان في المنطقة الواقعة بين المحيط الأطلسي غرباً وحدود الهند والصين شرقاً .

في كتابه الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: "غرق الحضارات"، والمتكون من مقدمة، وأربعة فصول كبيرة، وخاتمة، يتطرق فيه أمين معلوف إلى أهم الاضطرابات التي دفعت بالعالم إلى شفير هذه الكارثة، لا سيما الانهيارات الكبيرة في المنطقة المشرقية، حيث دفعت الأمة العربية محنتها الانتحارية بالكوكب برمته للدخول في الآلية المدمرة، حسب وجهة نظره.

 

ولقد كانت الكاتبة الأردنية عبير فؤاد، قد قدمت كتاب أمين معلوف: "غرقالحضارات"، لجهة أن العالم العربي أو المشرق، كان مؤهلا لإنقاذ العالم، فإن الكاتب التونسي توفيق المديني، يرى في كتاب أمين معلوف جانبا آخر، إذ أنه يقدم شهادة حية على فشل مقاربة العسكر في العلاقة مع الديمقراطية والتعددية الحزبية.

صعود عبد الناصر والقضاء على اللحظة الليبرالية

ولد الكاتب أمين معلوف في مصرفي 25 شباط (فبراير) 1949، وبعد ولادته بثلاث سنوات، دخلت مصر في مرحلة الغليان الثوري، عقب قيام قيادة تنظيم الضباط الأحرار بالانقلاب العسكري في 23 تموز (يوليو) 1952، والإطاحة بالنظام الملكي القديم، ووضعها أسس ودعائم النظام الجديد، علمًا أنَّها لم تكن تمتلك تصوراً أيديولوجياً أو فلسفة سياسية محددة لبناء دولة جديدة. وكان التفكير السياسي للرئيس عبد الناصر يتمحور في ذلك الوقت حول مفهوم الحركة الوطنية، وتأكيد الذات المصرية.

ولذلك، فإن الصيرورة الفكرية والسياسية لثورة يوليو لم تتحكم فيها أيديولوجيا محددة في البداية باستثناء المبادئ الستة الشهيرة التي طرحها عبد الناصر. بل إن الفكر السياسي للثورة تبلور من خلال الارتقاء الصعب للناصرية في خضم تضاريس السياسة العربية والدولية، ولذا وصفت الناصرية من قبل نقادها بأنها قد غلب عليها طابع "التجريبية" و"الذرائعية" وقد اعترف عبد الناصر صراحة بذلك حين قال "بأن قادة حركة الجيش لم يكن لديهم فكرة واضحة عما يجب أن يفعلوه عندما وجدوا أنفسهم فجأة في مقاعد السلطة".


ليس من شك أن ثورة يوليو 1952 التي كان العسكر أداتها السياسية بعد أن سيطر على الحكم في عملية استبدال القيادات السياسية التقليدية بالضباط السياسيين، قد اصطدمت بمشكلة الديمقراطية. وكانت مسيرتها في معالجتها للديمقراطية في ظل مجتمع فلاحي منذ البداية، مليئة بالمفاجآت والفخاخ الخطرة، والتعقيد والتعرج. لقد تحول العسكر إلى قوة سياسية ضاربة طغت على المؤسسات الأخرى، خصوصاً عندما ألغت الأحزاب السياسية، ومنعت قيام أحزاب أخرى وأقصت الأحزاب الأيديولوجية سلفاً من المشاركة في صنع القرار السياسي العام، فخلقت بذلك جداراً من العزلة بين المجتمع السياسي الذي يسيطر عليه الجيش، وبين مؤسسات وتكوينات المجتمع المدني. وتمثل هذا النهج القمعي للحركة الشعبية والمتناقض مع الديمقراطية .

إن علاقة العسكر بالديمقراطية ليست علاقة ودية، بل هي علاقة تعاكسية، ذلك أن العسكر والديمقراطية يقفان على طرفي نقيض، والسبب يرجع في ذلك إلى التناسب العكسي بين الديمقراطية والعسكر. فكلما ازدادت الديمقراطية قل تدخل العسكر في السياسة والعكس صحيح. فالديمقراطية مرتبطة بالحرية السياسية بتنوعها التي تفترض قدرة المواطنين على تأليف الأحزاب السياسية، والانتماء إليها، والمشاركة في الحياة السياسية العامة بكل معاني المشاركة وشروطها، وانتخاب حكامهم، وممارسة حقوقهم بحرية تامة. ومن هذا المنطلق، فإن إلغاء الأحزاب السياسية من جانب قيادة يوليو إنما يخفي في جوهره عداء للديمقراطية ذاتها.

يقول العلامة "روبرت ميتشل" إن الديمقراطية لا يمكن تصور وجودها دون تنظيم، والأحزاب هي التي تتولى ذلك التنظيم، لأن التنظيم هو الوسيلة الوحيدة لخلق إرادة عامة، كذلك فإن التنظيم في يد الجماعة الضعيفة سلاح من أسلحة الكفاح ضد الأقوياء".

هل كان العسكر في مصر يمتلكون قدرة على الفعل السياسي الهادئ العقلاني والمنطقي الذي يقدم حلولاً واقعية لمشكلة الديمقراطية وبناء المجتمع المدني الحديث؟

في الواقع بعد تحجيم الطبقة المالكة القديمة سياسياً بفضل قانون الإصلاح الزراعي المتواضع في توجهاته، والمحدود في مداه، الذي نجح في تقويض البنية الاجتماعية لطبقة الملاك، والقضاء على الأحزاب السياسية، وخنق الحركة العمالية والنقابية في مهدها. كان واضحاً أن الجيش لم يكن يمتلك مشروعاً سياسياً لحل مشكلة الديمقراطية في مصر، إذ تفجر الصراع داخل المؤسسة العسكرية حول "مفهومين متناقضين للديمقراطية مشكلة والديمقراطية حلاً".

كان الموقف السلبي من النظام البرلماني السابق، والديمقراطية الليبرالية التي لم تفسح للشعب المصري لكي يحكم نفسه بنفسه، ويكون له المقدرة على ممارسة الديمقراطية ضد الاستبداد والتسلط اللذين يمارسان عليه عن طريق مظاهر التمثيل النيابي، والتي سلبت الشعب المصري حريته السياسية، قد قاد العسكر إلى اختيار بديل ثان، هو تأسيس نظام جديد يعتمد أسلوب فرض الوصاية على الشعب بحكم أن أغلبية متخلفة ديمقراطياً، وعجز الأحزاب السياسية سواء منها أحزاب الأقلية أم الأحزاب الأيديولوجية الراديكالية عن الاضطلاع بإنجاز مهام حل أزمة الديمقراطية في تلازمها مع إجراء التحولات الوطنية والقومية والاجتماعية الضرورية للتقدم والاستقلال.

يقول الكاتب أمين معلوف في نقده لعبد الناصر: "كان حكمي على الرجل متباينًا جدًا، ولا يزال. أجل، حتى اليوم، وعلى الرغم من مرور سنوات كثيرة، إنني أتردد بشأنه. ففي بعض الجوانب، كان عبد الناصر آخر عمالقة العالم العربي، وربما آخر فرصة سانحة لنهوضه من كبوته. ولكنه ارتكب أخطاء جسيمة للغاية، وبشأن مسائل جوهرية كثيرة، فلم يخلف من حوله سوى المرارة والندم والخيبة. لقد ألغى تعددية الأحزاب لإنشاء الحزب الواحد، وكمّم الصحافة التي كانت تتمتع بقدر لا بأس به من الحرية في ظل النظام السابق، واعتمد على المخابرات لإسكات خصومه، وكانت إدارته للإقتصاد المصري بيروقراطية، وتفتقر إلى الكفاءة، وأخيرًا مكلفة، ولقد دفعت ديماغوجيته القومية نحو الهاوية، وكل العالم العربي معه"(ص 45 من الكتاب).

يتداخل في تحليل الكاتب أمين معلوف الخاص بالعام، حين يتطرق  للقضايا والمآسي التي تمس الواقع العربي، من قضية فلسطين إلى القومية والوحدة العربية وهزيمة المشروع القومي العربي أمام المشروع الإمبريالي الأمريكي، والمشروع الصهيوني، فهو تارة يصف أحكامه "بالانطباعات" معتبراً "بأن ما حدث في الدول العربية ساهم بشكل ما في خلق شئ غير صحي في بقية العالم"، وأحياناً يقيسها بأحكام يقينية مطلقة مؤكداً بأن "الظلمات انتشرت في العالم عندما خَبَت أنوار المشرق؟.."من موطني الأصلي الذي ولدت فيه أقدم الحضارات، بدأت تنتشر الظلمات".

قد يختلف الكثيرون معه بشأن تحليله للتجربة الناصرية؛ بما لها وما عليها، حيث يتراءى له أن "جمال عبد الناصر" شخصية عظيمة لا تقل عظمة عن "تشرشل" وما قام به؛ "له مواقف تجعله جذاباً، وتؤدي إلى أنّ وفاته المبكرة، تستثير عندي، وعند الكثيرين من العرب شيئاً من الحنين، مع أنه بلا جدال أحد حفاري قبر المشرق الذي كنت أحب."(ص 46 من الكتاب).

توجس الأقليات من مشروع الوحدة العربية
 
فالمفهوم الناصري للقومية العربية يعني فكرة الوحدة العربية، والمواجهة مع الإمبريالية باحلافها ومشاريعها، واعتبار مسألة الوحدة العربية المسألة المركزية في الصراع العربي الصهيوني، لكن هذا المفهوم لم يرتق إلى مستوى الوعي القومي الوحدوي المطابق، باعتباره فرعاً أساسياً من فروع الوعي الثوري العام المطابق، من أجل بناء الدولة القومية العربية الحديثة والمجتمع المدني. ولذلك فشل المشروع الوحدوي في الدفاع عن الوحدة بين مصر وسورية وقيام الجمهورية العربية المتحدة العام 1958، والتي ولدت وسط حالة حرب سياسية من أكبر حالات الحرب الباردة التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، والتي فجرت بدورها سلسلة من الأحداث السياسية التاريخية المهمة، ومنها ثورة العراق في 14 تموز (يوليو) 1958، وانفجار الحرب الأهلية في لبنان بين القوى الوطنية اللبنانية والقوى اليمينية الانعزالية.

 

لقد ألغى تعددية الأحزاب لإنشاء الحزب الواحد، وكمّم الصحافة التي كانت تتمتع بقدر لا بأس به من الحرية في ظل النظام السابق، واعتمد على المخابرات لإسكات خصومه، وكانت إدارته للإقتصاد المصري بيروقراطية، وتفتقر إلى الكفاءة، وأخيرًا مكلفة، ولقد دفعت ديماغوجيته القومية نحو الهاوية، وكل العالم العربي معه

 



ولما كانت هذه الدولة الوحدوية "الجمهورية العربية المتحدة" تنتهج نهج "الاستقلال" عن المراكز الامبريالية الغربية، وتقود مساراً متناقضاً للاحلاف العسكرية والانحياز، وإقامة القواعد الأجنبية، وتعتمد على مواردها الذاتية، وتخلق ميزان قوى عسكري جديد يلجم التهديد والعدوان الصهيوني، ويمثل شرطاً أساساً في مواجهة الكيان الصهيوني، سارعت البيروقراطية العسكرية السورية المدعومة من الحلف الرجعي العربي والدول الامبريالية الغربية إلى إجهاض هذه الوحدة عبر الانفصال في 28 أيلول 1961. فالانفصال شكل ضربة قوية للمضمون العربي الوحدوي للسياسة الناصرية، لأن هذا المضمون "هو نقطة احتكاك أساسية، إن لم نقل وحيدة بين النظام الناصري والامبريالية. "والحال هذه، كان المضمون العربي الوحدوي للسياسة الناصرية المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي، والمعسكر الشرقي هوالهدف المركزي المطلوب تصفيته من جانب القوى الامبريالية الغربية، والرجعية العربية، والكيان الصهيوني.

تتحكم في رؤية الكاتب أمين معلوف في نظرته لتجربة إخفاق الوحدة المصرية –السورية، الرؤية الأقلوية، ففي أثناء الوحدة المصرية ـ السورية 1958 ـ 1961، أحس أرمن سوريا كما أرمن مصر سواء بسواء أنهم، مستهدفون على نحو خاص ببرنامج التأميم الناصري. فهجرة الأرمن الجماعية الهامة من مصر وسوريا نتجت عن هذه الظروف الاقتصادية المتردية أكثر منها من بواعث سياسية.

يقول الكاتب أمين معلوف: "في أسرتي، استُقبل انهيار الجمهورية العربية المتحدة بارتياح، بل وبابتهاج. ومازلت أتذكر هتافات الفرح التي تعالت حول راديو الترانزستور الذي كان يبثُّ البيانات والأناشيد الوطنية لإذاعة دمشق التي سيطر عليها الإنقلابيون. ولشدة ما أظهر أبي حماسة في مقالته، استدعاء الرئيس اللبناني فؤاد شهاب إلى القصر الجمهوري لتقريعه. كان رئيس الدولة يخشى أن يترجم إحباط الكثيرين من مؤيدي عبد الناصر إلى قلاقل في شوارع بيروت ومدن لبنانية أخرى، كون أحداث عام 1958 لا تزال حاضرة في الأذهان. وشدّد في كلامه: حذار من صبّ الزيت على النار! وعلى المحرّرين أن يتحلوا بالمسؤولية والتحفظ. 

قال شهاب وقد ارتسمت على محياه ابتسامة خفيفة: "بما أننا قد حصلنا على ما كنا نريد، فلنتظاهر بأننا نشعر بالحزن من أجل الذين خسروا". ولم يعرف أبي الذي كثيرًا ما ردّد على مسمعي هذا الكلام إذا كان استعمال "نحن" مجرد أسلوب في التعبير أو إذا كان الرئيس يريد إفهامه بأنه يشاطره مشاعره"(ص 71 من الكتاب).

التعليقات (0)