كتاب عربي 21

ذهب مع الريح.. الكابوس الأمريكي

طارق أوشن
1300x600
1300x600

كان لابد من انتظار أكثر من ثمانين سنة لتسقط أسطورة قُدمت على أنها أكبر نجاحات السينما العالمية لدرجة اختيارها كأفضل فيلم في التاريخ. التظاهرات التي أشعلها مقتل مواطن أمريكي أسود صارت عابرة للجغرافيا والتاريخ وشكلت لحظة "فارقة" لإعادة النظر في كثير من المسلمات. أُسقطت تماثيل لتجار عبيد وملوك وقادة حكموا بالعنصرية منهاجا أوحدا فهجّر بعضهم من السود الأفارقة الملايين، واستطاب آخرون قتل ملايين أخرى بالديار دون حاجة لتهجير. 

كريستوفر كولومبوس لُفَّ تمثاله في علم محترق وألقي في بحيرة في فرجينيا الأمريكية، وهو نفس المصير الذي لاقاه مجسم إدوارد كولستون بميناء بريستول الإنجليزي، وكذلك كان الأمر مع تمثال الملك ليبولد الثاني ببروكسيل البلجيكية، عاصمة الاتحاد الأوروبي، وغيرها من المناطق التي شهدت دعوات لإزالة تماثيل من مؤسسات رسمية ليس أقلها إحدى عشر تمثالا لعسكريين ومسؤولين من الحقبة الكونفدرالية "تزين" مقر الكابيتول، أو أسماء شوارع وساحات مرتبطة بإرث العبودية وتجارة الرقيق والاستعمار تنتشر في كل زاوية أو زقاق. 

 

جورج فلويد، صار له ولأقرانه اسم معروف اختاره عن طواعية، وصارت القوانين تمنحه كثيرا من الحقوق. لكن حياته وحياة كثير من أقرانه ظلت دوما على هامش المجتمع، فكل ما منحته القوانين يبدو كـ "عظم" في مقابل الثروات التي ينالها من يحملون جنسيته مع لون فاتح يبعث على الارتياح.

 



وحده دونالد ترامب مصر على السباحة ضد التيار وهو يعلن صراحة رفضه الدعوات لإزالة أسماء الجنرالات الكونفدراليين عن قواعد عسكرية أمريكية اعتبرها "جزءا من التراث الأمريكي العظيم". يبدو أن حبل الانتخابات الأمريكية الرئاسية صار يلتف حول عنق  الرجل، المنتشي بـ "قوة" الاقتصاد الأمريكي، فلا يجد غير الدفاع عن إرث عنصري بغيض أملا وحيدا لدغدغة مشاعر اليمين وقاعدته الانتخابية الصلبة أملا في البقاء في بيت أبيض، اضطر للاختباء في قبوه خوفا من المظاهرات التي حاصرته قبل أن يخرج، وحاشيته، بعد تفريق المتظاهرين بالقوة، لأخذ لقطة كان في أمس الحاجة إليها لترميم صورته المخدوشة، أسوة بديكتاتوره المفضل، رافعا الإنجيل برنامجا انتخابيا و"عسكرة" الولايات الأمريكية حلا وحيدا لمواجهة "الإخوان الانتيفيين". 

ولأن لترامب توأم بريطاني يتشارك معه عقدة تفوق البيض، فقد سارع بوريس جونسون لاعتبار إزالة التماثيل "عملا إجراميا". سيذهب ترامب وجونسون وغيرهما لا محالة مع الريح وستبقى الشعوب، ولن يجدوا من بينها من يبني لهم تمثالا أو يحمل لهم ذكرا.

في فيلم (ذهب مع الريح ـ 1939) تطبيع مع الأحكام الجاهزة في المجتمع الأمريكي تجاه فترة الحرب الأهلية التي وإن انتهت بغلبة الشمال على الجنوب "العنصري"، فإن ضحايا الاستعباد كانوا آخر من استفاد من نتائجها. ولأن موجة الاستنكار صارت أعلى من أن يتجاهلها أحد، فقد بادرت منصة أمريكية معروفة إلى سحب الفيلم من قائمة الأفلام التي تعرضها باعتبار أن "هذا السرد العنصري كان ولا يزال خطأ والاستمرار في عرضه سيشكل خطوة غير مسؤولة". هو ذات السرد التاريخي الذي ينادي كثيرون للحفاظ عليه حتى لا تتحول دولهم "المتحضرة" إلى طالبان أخرى تدمر فيها التماثيل. 

 

لم يكن غريبا أبدا أن تظهر فتاوي، من عندنا، تعتبر ما يحدث في أمريكا "ابتلاء لرئيس صالح كما وقع لكثير من الحكام الذين بفضلهم وبحنكتهم السياسية استتب الأمن والأمان في العالم". ألم يسبق لخطيب المسجد الحرام أن اعتبر الرئيس الأمريكي قائدا للعالم نحو السلم والاستقرار؟

 



التاريخ يقول إن رواية (ذهب مع الريح) حققت نجاحا تجاريا كبيرا، وهو نفس النجاح الذي استمر مع الفيلم دون أن يلتفت أحد إلى ما تعرضت له الممثلة، التي أدت دور الخادمة الإفريقية، من إهانة منعتها من حضور العرض الافتتاحي ومن الجلوس مع طاقم الفيلم بحفل الأوسكار، حيث نالت جائزة أفضل ممثلة ثانوية، لأن التقاليد اقتضت تخصيص طاولة بمؤخرة قاعة الحفل للممثلين ذوي الأصول الإفريقية ليس إلا. هؤلاء ممثلون "نجحوا" في الخروج من الجيتوهات، لكن العنصرية المقيتة فرضت بقاءهم معزولين ومنبوذين.
 
"أنتم لستم أمريكيين. أنتم ضحايا أمريكا. لم تختاروا المجيء هنا. لم يخاطبكم أحد بالقول أخي الأسود، أختي السوداء هيا معي لنبني أمريكا معا. لقد قيل لكم: أيها الزنوج، سأرسلكم هناك وستشتغلون في بناء أمريكا. أن تكون مولودا هنا لا يجعل منك أمريكيا. لست أمريكيا. أنت مجرد واحد من العشرين مليون أسود من ضحايا أمريكا. أنا وأنت لم نعش يوما الديمقراطية في مزارع القطن بجورجيا. أنا وأنت لم نعش الديمقراطية في هارلم. كل ما عشناه هو النفاق. نحن لا نعرف الحلم الأمريكي. ما نحياه يوميا هو الكابوس الأمريكي".

هذه مقتطفات من خطاب للناشط الأمريكي مالكوم إكس، اختار المخرج سبايك لي أن يفتتح بها فيلمه (مالكوم اكس ـ 1992). سبايك لي من أنجح المخرجين ونجوم الترفيه في هوليود. لكنه اختار حقبة من الحقب السوداء في التاريخ الأمريكي المعاصر لإسقاطها على مرحلة التسعينيات. لم يكن الفرق بين الحقبتين إلا عقودا قليلة تمكن فيها السود الأمريكيون من اكتساب كثير من الحقوق المدنية التي كانت حتى وقت قريب منك ممنوعة عليهم بحكم القانون. لكن العنصرية ظلت السمة الأساس في تعامل المجتمع ومؤسسات الدولة تجاههم. نجح منهم كثيرون في حجز مكان تحت الأضواء، بل صار منهم رئيس قضى ولايتين بالبيت الأبيض ومع ذلك لا يزال لخطاب مالكوم اكس راهنيته، وما زال المتظاهرون يستحضرونه ومعه كثير من كلمات مأثورة لقادة تاريخيين لحركات المطالبة بالحقوق المدنية في أمريكا.

من يومين فقط، تمكنت أمريكا أخيرا من تعيين رئيس أركان سلاح الجو كأول رئيس من أصل افريقي لفرع من فروع الجيش الأمريكي الستة الرئيسية، حيث سيصبح أيضا الثاني بعد كولن بأول كعضو في هيئة أركان الجيوش المشتركة. ترمب اعتبر الأمر "يوما تاريخيا" أما الجنرال تشارلز براون جونيور فاستعاد ذكرياته مع العقبات التي واجهته في مساره العسكري بسبب لون بشرته الداكنة. النفاق الذي تحدث عنه مالكوم اكس يقتضي تلوين القيادات فالواجهة أهم من المضمون.

فيلم مالكوم إكس...

في ساحة السجن الخارجية يمشي مالكوم اكس مع السجين بينز (وهو عضو في منظمة أمة الإسلام). السجناء السود يلعبون مباراة في البيسبول ويفتخرون بنجاح واحد من جلدتهم في إثبات ذاته بين نجوم تلك الرياضة الشعبية بأمريكا.

بينز: يرمي لنا البيض عظما فنتلقفه ناسين 400 سنة من القهر.

مالكوم اكس: صحيح. لكن زنجيا.. أسودا في إحدى فرق البطولة نجاح.

بينز: كنت أعتقد أني علمتك البحث عن الحقيقة المخبأة في التفاصيل. يتركوننا نغني ونرقص ونمرح ويسمحون لزنجي بالانتماء لفريق كبير. أتظن ذلك كافيا لإلغاء أكبر جريمة في التاريخ؟ لقد ربطنا هذا الشيطان ذو العيون الزرقاء بسلاسل.. كنا مائة مليون.. شتت عائلاتنا.. عذبنا.. منع عنا لغتنا وديننا وتاريخنا.. سأحدثك عن تاريخنا.... كنا نحن السود ملوكا عندما كان البيض يتجولون على أربع بأوربا. هل تعرف من أين أتيت؟ ما اسمك؟ 

مالكوم اكس: مالكوم ليتل.

بينز: كلا. هذا اسم السيد الذي كان يملك عائلتك كلها. أنت تجهل من أين أتيت ومن تكون؟ أنت لا شيء.. لا شيء تماما. من تكون؟

مالكوم اكس: لا أعرف.

بينز: نحن أمة من قبيلة شيباز تائهون في هذه الصحراء الأمريكية الرهيبة.

أحد المنحدرين مما أسماه بينز "قبيلة شيباز"، وجد نفسه قبل أيام تحت رحمة واحد من "البيض"، الذين كان سلفه مالكوم اكس يعتبرهم "العدو المشترك"، ولم تكن استغاثته التي دامت عدة دقائق كفيلة بأن يرفع عنه الشرطي "الأبيض" رجله الموضوعة على عنقه حتى فارق الحياة أمام عدسات كاميرا جمهور، حضر للحادثة ومُنع أو امتنع عن تقديم العون له لتخليصه من موت محقق أشعل الولايات المتحدة وتعداها إلى الخارج ل"وحشية" ما تناقلته القنوات.  

جورج فلويد، صار له ولأقرانه اسم معروف اختاره عن طواعية، وصارت القوانين تمنحه كثيرا من الحقوق. لكن حياته وحياة كثير من أقرانه ظلت دوما على هامش المجتمع، فكل ما منحته القوانين يبدو كـ "عظم" في مقابل الثروات التي ينالها من يحملون جنسيته مع لون فاتح يبعث على الارتياح. لقد استطاع السود في أمريكا تحقيق نجاحات كبرى في كل المناحي لكن غالبيتها تركز في مجالات الترفيه عن "البيض" ليس إلا. صحيح أن النجاحات حقيقية لكنها في الأول والأخير نجاحات فردية لا ترقى لتغيير حقيقي في منظومة مجتمعية أُرسيت على بناء طبقي يتخذ من اللون معيارا للارتقاء.

 

مالكوم إكس وُلد في في 19 أيار (ماي) 1925، وفي 25 أيار (مايو) 2020 قتل جورج فلويد. الفارق بين الحدثين قرن تقريبا لم يسمح لأمريكا بالتعافي من داء العنصرية المستشري في دواليبها.

 



اليوم، تضطر عمدة واشنطن الإفريقية الأصل، موريل براوزر إلى إعادة تسمية الطريق الرئيسية المؤدية إلى البيت الأبيض باسم "حياة السود مهمة"، ويعد عمدة مدينة نيويورك بيل دي بلاسيو بإعادة تسمية عدد من شوارعها بنفس الاسم. أما جو بايدن المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئيسية فيقدم وعده بتعيين امرأة سوداء كنائبة للرئيس. إلى هذا الحد إذن كانت حياة السود هامشية، وإلى هذا الحد صار التقرب من السود مطية للنجاح في الانتخابات. 

وفي الجانب الآخر، ولنفس الأسباب، ظهر "حمادة" الأمريكي الذي طرحته الشرطة أرضا وشكك الرئيس ترامب في الواقعة واعتبرها فخا، كما حدث أيام حصار قصر الاتحادية في مصر، حيث سحلت الشرطة مواطنا مصريا واستغلت القنوات الفيديو المصور خلسه لتجييش العامة على الرئيس محمد مرسي قبل أن يتبين أن "المسحول" من حملة "آسفين يا ريس". 

ترامب لا يملك نفس الحظ مع أتباعه ولو ظهر في الساحات "مواطنون شرفاء" حاولوا الاعتداء على المتظاهرين، وصور بعض من أفراد الجيش الذي حمى المتظاهرين، وتم ترويج فزاعة "المندسين" الذين يلوثون سلمية التظاهرات، واستعيدت قوانين بالية تعود لما قبل الحرب الأهلية، التي قيل إنها أطاحت بالعبودية، وهو القانون الذي استخدم اخر مرة في لوس انجليس بعد مقتل مواطن امريكي اخر من أصول افريقية (رودني كينغ) على يد نفس جهاز الشرطة المتهم بقتل فلويد.

ما تشهده الولايات المتحدة منذ أيام أسقط كثيرا من الأساطير والشعارات والاكاذيب والتماثيل، وهو مرشح ليسقط المزيد في أمريكا وخارجها من المستبدين المرتبطين عضويا بالإدارة الحالية على حساب مصالح الشعوب. ولم يكن غريبا أبدا أن تظهر فتاوي، من عندنا، تعتبر ما يحدث في أمريكا "ابتلاء لرئيس صالح كما وقع لكثير من الحكام الذين بفضلهم وبحنكتهم السياسية استتب الأمن والأمان في العالم". ألم يسبق لخطيب المسجد الحرام أن اعتبر الرئيس الأمريكي قائدا للعالم نحو السلم والاستقرار؟

خطاب لمالكوم إكس..

لست اليوم هنا باعتباري جمهوريا أو ديمقراطيا. لست بروتستانيا ولا كاثوليكيا، لست مسيحيا ولا يهوديا، والحقيقة أنني لست حتى أمريكيا. فلو كنت أمريكيا لما كان شعبنا يواجه المشاكل التي يعيشها اليوم. أتقدم أمامكم اليوم كما كنت يوم ولادتي: رجلا أسودا. قبل أن يكون هناك جمهوريون ولا ديمقراطيون، كان هناك سود... وحتى قبل اكتشاف أمريكا كان هناك سود، وفي اليوم الذي ستختفي فيه أمريكا سيبقى هناك شعب أسود. كلما حل موعد الانتخابات يرسلون إلينا مرشحين لإسكاتنا ومن يرسلهم ويدفع لهم هم البيض. ما يفعلونه هو إرسال المخدرات هنا إلى هارلم لإسكاتنا، يرسلون الكحول هنا لإسكاتنا، يرسلون المومسات هنا لإسكاتنا... أقولها وأعيدها: لقد احتال عليكم البيض. هذا ما يفعلونه بكم..

مالكوم إكس وُلد في في 19 أيار (ماي) 1925، وفي 25 أيار (مايو) 2020 قتل جورج فلويد. الفارق بين الحدثين قرن تقريبا لم يسمح لأمريكا بالتعافي من داء العنصرية المستشري في دواليبها. مالكوم إكس تعرض للتشويه بعد اغتياله شابا في الأربعين ولا نعرف مصير سيرة جورج فلويد بعد انتهاء فورة الغضب وهو الذي مات في منتصف الأربعينات أيضا. الأول احتاج لسنوات من الكفاح ومئات الخطابات والتجمعات للتنديد بالعنصرية، واكتفى الثاني بدقائق معدودات مصورة ليُذهب تماثيل وأكاذيب وأساطير مع الريح. إنه الكابوس الأمريكي.

التعليقات (0)

خبر عاجل