كتب

المكانة الإقليمية لتركيا حتى عام 2020: دراسة مستقبلية (2من2)

كتاب يستشرف مستقبل تركيا السياسي ومكانتها الإقليمية والدولية  ـ عربي21
كتاب يستشرف مستقبل تركيا السياسي ومكانتها الإقليمية والدولية ـ عربي21

الكتاب: "المكانة الإقليمية لتركيا حتى عام 2020: دراسة مستقبلية"
المؤلف: بكر محمد رشيد البدور
الناشر: مركز الجزيرة للدراسات- الدار العربية للعلوم ناشرون 2016

 

يواصل الأستاذ الجامعي التونسي الدكتور أحمد القاسمي، في الجزء الثاني والأخير في عرضه لكتاب "المكانة الإقليمية لتركيا 2020"، لصاحبه بكر محمد رشيد البدور، والصادر عن مركز الجزيرة للدراسات، ويركز على "المكانة الإقليمية لتركيا، المؤشرات والاتجاهات" فيرسم صورة تركيا المستقبلية، بعد أن كان قد بحث في الجزء الأول "دراسة البنية الداخلية لتركيا"، ماضيا وحاضرا.. 


2 ـ تركيا في أفق 2020

ينطلق الباحث بكر محمد رشيد البدور في القسم الثاني الموسوم بـ "المؤشرات والاتجاهات" مما رصد من بيانات استقاها من قراءة مختلف مجالات الحياة التركية تاريخا وراهنا لبناء السيناريوهات الممكنة لمكانتها الإقليمية. وبناء السيناريوهات من تقنيات البحوث المستقبلية، فانطلاقا من دراسة تاريخ الظاهرة ماضيا وتجلياتها حاضرا وانطلاقا مما تم رصده من المؤشرات، وتصنيفها التصنيفات المتعددة يعمل على ضبط الاحتمالات المستقبلية الممكنة للظاهرة المدروسة والإحاطة بها من مختلف وجوهها. وانطلاقا منها يضع المشرفون على التخطيط الاستراتيجي البدائل الممكنة أو يضبطون التدخل الناجع لتغيير النتائج وتعديل المسار المستقبلي. ويشترط في هذا البناء الانسجام بين الفرضيات، وأن تكون الاختلافات بين السيناريوهات واضحة. 

وضمن هذه الخلفية النظرية سعى الباحث إلى ضبط احتمالات المكانة الإقليمية لتركيا في أفق 2020 على المستويين السياسي والاقتصادي خاصّة.

أ ـ سيناريوهان ونزعة للتفاؤل:
 
يبدأ بالسيناريو المتفائل. فعلى المستوى السياسي، ينطلق من تشخيص الرّاهن. فيرصد انحسار دور العامل الإيديولوجي في السياسة التركية مقابل تعاظم دور المختصين التكنوقراط بعيدا عن الاصطفاف الفكري والمذهبي. ويذكّر بتحول المؤشرات على مستوى الحريات السياسية من الحرية الجزئية إلى الحرية الكبيرة، وحل مشكلات الأقليات من خلال الدستور الجديد. ويشير إلى إنهاء تدخل الجيش في الحياة السياسية وتحول التنظيمات المسلحة إلى تنظيمات وأحزاب سياسية مدنية. 

ويلاحظ أنّ هذا الوضع الداخلي يسهم، بشكل إيجابي، في ضبط علاقات تركيا مع محيطها الإقليمي. فعامة تحظى سياستها الخارجية بالقبول الداخلي وهذا ما يوفّر ظروفا مريحة للحكومة لتعمل بعيدا عن الضغوطات، وما يؤهلها لدعم هيمنتها مستفيدة من تفكك المعسكر الشرقي إلى دويلات صغيرة. ويتوقع من جهة الشرق شراكة فاعلة مع إقليم كردستان العراق لمحاصرة حزب العمال الكردستاني ولحرمانه من قاعدة خلفية وفي الآن نفسه يتوقع تسليم البلدان العربية ذات الأنظمة المتقهقرة، بالدور التركي وريث للدولة العثمانية التي كانت تهيمن على هذه البلدان.

 

يرصد انحسار دور العامل الإيديولوجي في السياسة التركية مقابل تعاظم دور المختصين التكنوقراط بعيدا عن الاصطفاف الفكري والمذهبي

 



ويصدر عن المؤشرات العديدة، كاحتلال اقتصاد تركيا للمرتبة العاشرة عالميّا، وتنامي العلاقات العربية التركية، وكحل مشكلات المياه والحدود، وبناء عديد المحطات النووية بالتعاون مع روسيا لتوليد الطاقة منذ 2014 والنجاح في مدّ أنابيب النفط من الدول المجاورة عبر أراضيها لتصديرها إلى أوروبا مستفيدة من النزاعات بين دول الجوار واضطراب علاقاتها، ليقدّر أن تركيا مقبلة على حل خلافاتها مع محيطها الإقليمي وتعزيز تعاونها الاقتصادي معه لتخفيف الضغوط الأمنية والعسكرية على حدودها.  

ويرى أنّ مكانتها الفضلى على المستوى الإقليمي ستدفع الدول الكبرى إلى استمالتها لتكون في صفها. ولكنه يتوقّع اتجاه تركيا أكثر مستقبلا، إلى أسيا الوسطى وإلى المنطقة العربية والقوقاز وهي المناطق التي تضمن فيها هيمنتها الاقتصادية بيسر أكبر.

أما بالنسبة إلى السيناريو المتشائم والذي مداره على اجتماع المتغيرات ذات التأثير السلبي وعملها معا لغير صالح الموضوع المدروس، فيرى أنّ خطر تقسيم البلاد يظل ماثلا بالنظر إلى الحالة الإقليمية غير المستقرة وإلى المشاكل العرقية والقومية والدينية المذهبية أو إلى الثورات الشعبية التي تندلع هنا أو هناك. ويجد أنّ خطر الانقلابات العسكرية لم يزل تماما مستندا إلى حنين العسكر إلى السلطة والنفوذ اللذين نشأا عليهما. وللكوارث الطبيعية الممكنة نصيب في هذا السيناريو كأن يضرب زلزال مدمر البلاد، ومعروف أن تركيا تقع في منطقة زلازل وأن الخبراء يتوقعون زلزالا كبيرا سيضرب مدينة إسطنبول مستقبلا.

على المستوى الجيوسياسي تقع تركيا، إقليميا، في قلب التحولات العالمية الكبرى منذ الصدام بين الدولة العثمانية والعالم الغربي إلى مركزية موقعها ودورها في الحرب الباردة إلى مرحلة ما بعد الحرب الباردة التي يشهد فيها العالم ترتيبات جديدة. فالمنطقة شديدة التفاعل فيما بينها، شديدة التأثر بما يطرأ في العالم من تحوّلات. وقد آلت نتيجة التفاعل غالبا لصالح القوى الخارجية. ولكن في الأفق تلوح للباحث مؤشرات عديدة تؤكد أنّ هذه التحولات ستؤول لصالح القوى الداخلية، وهذا ما يفتح الباب أمام المنافسة بين تركيا وإيران وإسرائيل ومصر بدرجة أقل. أما سوريا فستتحول إلى منطقة رخوة وستخرج من دائرة التنافس، على غرار العراق.

ورغم أنّ هذه المنطقة تشتمل على مولدات للتوتر الإقليمي. منها فشل العملية التفاوضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين واحتدام الصراع المذهبي وصعود التيارات الدينية وضعف الأنظمة السياسية وانتشار وسائل الإعلام التي تذكي هذه العوامل وتجعل منها محركات محددة للتنافس الإقليمي، فإن الباحث يتوقّع أن يتآكل نفوذ أمريكا تدريجيا بخروجها من مركزية هذا النظام ويجد أنّ تركيا مؤهلة لمزيد الفاعلية الإقليمية بالنظر إلى مختلف المؤشرات التي تعمل لصالحها بمزيد تمتين علاقاتها مع أوروبا أو مع العالم العربي. ودعامة ذلك نهضتها على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، والانسجام السياسي السائد بعد اقتناع مختلف الفاعلين بضرورة التواؤم والتعايش والقبول بالآخر.
 
ب ـ في دقة القراءة وسلامة التوقّعات

غلب التفاؤل على عمل الباحث حتى بدا الأثر تبشيرا بمستقبل زاهر لتركيا أكثر مما هو دراسة علمية مستقبلية. فافتقر أحيانا لدقة العمل الأكاديمي ورصانته. فقد بنى مختلف توقعاته على فرضية تحجيم دور الجيش سياسيا وعلى سياسة صفر مشاكل على الصعيد الخارجي التي كان يتزعمها أحمد داوود أغلو. وانطلق الباحث من الثورات العربية التي أوصلت رواد الإسلام السياسي في كل من تونس وليبيا ومصر إلى الحكم، واصطلح عليه بالمستقيم السني الذي يناظر الهلال الشيعي في كل من إيران والعراق وسوريا ولبنان، ليتوقّع تفاعل تركيا مع هذا المستقيم مما يكوّن مثلثا تكون هي في قمته. وتوقّع تحالفها مع مصر لصياغة تحالف قويّ يشمل الدول الخليجية ويفرض سلطانه إقليميا ودوليا. 

 

يرى أنّ خطر تقسيم البلاد يظل ماثلا بالنظر إلى الحالة الإقليمية غير المستقرة وإلى المشاكل العرقية والقومية والدينية المذهبية أو إلى الثورات الشعبية التي تندلع هنا أو هناك. ويجد أنّ خطر الانقلابات العسكرية لم يزل تماما مستندا إلى حنين العسكر إلى السلطة والنفوذ الذين نشأ عليهما.

 



وبالفعل جربت تركيا أن تسلك هذا الطريق، ولكن الجيش عاد إلى واجهة السياسة عبر المحاولة الانقلابية التي جدّت صيف 2016 وتسبب في تراجع الحريات السياسية والإعلامية وفي إقالات كبيرة لموظفين اتهموا بالولاء إلى الداعية عبد الله غولن  المتهم بكونه الرأس المدبر لمحاولة الانقلاب. وقلبت التحولات الكبرى في المشهد السياسي المصري وانهيار سياسة التصفير واستقالة أغلو وتأسيسه لحزب جديد أغلب فرضيات الأثر. ففضلا عن كون علاقات تركيا بتونس تحولت إلى شرارة تذكي التناحر الداخلي بين فريق الإسلام السياسي الذي ينتصر إلى هذه العلاقات ومناوئيه الذين يتهمون حزب النهضة بالولاء لأوردوغان أكثر من الولاء للوطن وهذا ما غدا عنصرا معطّلا لعديد المشاريع، دافعا إلى مراجعة الاتفاقيات التجارية باعتبار الاختلال الكبير في التبادلات بين البلدين، شهدت تركيا أكثر من صدام مدوّ في علاقاتها الخارجية. من ذلك:

ـ صدامها مع الحلف الإماراتي المصري، على خلفية انتماءات إيديولوجية.
ـ صدامها مع السعودية بسبب التنافس على فرض نموذج الإسلام السياسي وقد زاد اغتيال جمال خاشقجي على الأراضي التركية العلاقات تأزما.
ـ صدامها مع بلدان الاتحاد الأوروبي على خلفية أزمة المهاجرين السوريين خاصة.
ـ صدامها مع إيران وروسيا على خلفية تباين التصورات من الحرب الأهلية السورية.
ـ صدامها مع الولايات المتحدة الأمريكية على خلفية رفض ترامب تزويدها بالمنظومة الدفاعية باتريوت واقتناءها للمنظومة الروسية البديلة إس 400. وهذا ما أفضى إلى حرب اقتصادية بين البلدين أسهمت في تراجع الليرة التركية بشكل كبير في أسواق المال. 

ولم ينكفئ الدور الأمريكي في الشرق الأوسط كما توقع الباحث ولم تعول أمريكا على تركيا لتحلّ محلها في قيادة المنطقة ولم تستقطبها الصين ولا روسيا وزاد الخطر الكردي و"الخشية من أن تأخذ الأحداث منحى طائفيا قد تمتدّ آثاره إلى تركيا نتيجة التركيبة السكانية المتشابهة [وهو تحدّ أمني ] لم تــــحتّم على تركيا السعي لإنهاء الملف السوري قبل أن يتطور إلى هذا الاتجاه".
 
ت ـ اعتلال المنهج يعمّق من أزمة المباحث المستقبلية

يعتمد استشراف المستقبل المنهج الاستكشافي المعتمد لاستطلاع المستقبل، واختار الباحث الشمولي منه خاصة، ذلك الاتجاه الذي يهتم بكل الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبتفاعلها وبمبدأ الاستمرارية منها الذي ينشأ عن تكرار بعض الأنماط والظواهر. وانطلاقا من الحدس والتخمين والاستئناس بالتجارب التي وقعت في الماضي حاول الباحث أن يرسم صورة مكانة تركيا الإقليمية في أفق سنة 2020. ولكن من يطلع على هذا الكتاب ينتهي إلى أنه كثيرا ما افتقر إلى الدّقة وكثيرا ما جانب الصواب وهذا ما جعلنا نتساءل عن مأتى الخلل في هذا الأثر.

ولعلّنا واجدون الخلل الأساسي في علم المستقبليات نفسه، فإلى أي حد يمكن التسليم بكونه علما؟ فكثيرة هي المواقف التي تجعله إلى فنّ البناء على الرمال المتحركة أقرب منه إلى العلم. فلا شيء ثابت في السياسة الدولية. ومن كان يتوقّع انهيار الاتحاد السوفييتي ثم المعسكر الشرقي برمته بعد ذلك؟ ومن كان يتوقّع أن يوضع مستقبل الاتحاد الأوروبي على المحك بعد خروج بريطانيا منه والتراخي الذي وسم أداءه في أزمة كورونا؟ ومن كان يتوقّع أن تؤثر جائحة ما في العالم هذا التأثير فيُرمى نصف سكان العالم في الحجر بعد ثلاثة أشهر من ظهورها. وها هي تزحف نحو النصف الثاني في الشهر الخامس؟

هذه إذن مؤاخذات عامة على علم المستقبليات بأسره. ولكن ما يعنينا هنا هو أثر "المكانة الإقليمية لتركيا 2020". فعلم المستقبليات يهدف إلى الكشف عن مشكلات ذات طبيعة مستقبلية. وغايته استباقها للبحث عن حلول لها. أما أثرنا المدروس فكان ينتقي المظاهر الإيجابية ليبرز نجاح تركيا في ظل قيادة حزب التنمية والعدالة في تحقيق رخاء اقتصادي واستقرار سياسي فشلت فيه الأحزاب العلمانية. ولا يكترث بالمظاهر السلبية. فكان ينحو منحى تمجيديا ينزله في إطار الإيديولوجيا أكثر مما ينزله في إطار العلم.

 

لعلّنا واجدون الخلل الأساسي في علم المستقبليات نفسه، فإلى أي حد يمكن التسليم بكونه علما؟ فكثيرة هي المواقف التي تجعله إلى فنّ البناء على الرمال المتحركة أقرب منه إلى العلم. فلا شيء ثابت في السياسة الدولية.

 



أضف إلى ذلك أن الباحث يصدر عن قناعة مدارها أن العالم كتلة جامدة مستقرة على حال واحدة. فقد كان يعوّل كثيرا على تحالف تركيا مع الولايات المتحدة الأمريكية ويبني عليه أكبر فرضياته مثلا. وهذا ما سفهته المناوشات بينهما التي سرعان ما تحولت إلى حرب اقتصادية فتحها ترامب لتعويم الاقتصاد والإضرار بعملتها. والمشكل الكردي أعقد من أن تتحكم في مصيره تركيا لوحدها. فالأكراد منتشرون في مختلف دول الجوار (العراق، إيران، سوريا) ويمثلون ورقة رابحة يراهن عليها مختلف اللاعبون الدوليون.

هذه الهنات طبيعية يقع فيها أهم المتمرسون بعلم المستقبليات، وقد ذكرنا منذ التمهيد أنّ الكتاب مغامر. ولكن ما لا يغتفر أنّ الكتاب أنجز في إطار بحث أكاديمي في جامعة اليرموك سنة 2012 وتم تحيين بعض معطياته لما أعدّ للنشر سنة 2015 ثم لما أعدت صيغة (PDF) منه سنة 2020 تم تحيينه ثانية لذلك نجد فيه معطيات كثيرة جدت بعد نشر الكتاب كالإشارة إلى تنقيح الدستور سنة 2017 والحديث عن معطيات ظهرت سنة 2019 (أنظر ما تعلّق بالمسألة الكردية مثلا ص 310) وشمل التنقيح الباب الثاني خاصّة، ذلك الذي يتعلّق باستشراف المستقبل. 

وهذا يطرح مشكلة أولى تتمثل في التناقض الصارخ بين الباب الأول (الذي لم يراجع كأن يتحدث عن حكم الإسلام السياسي في مصر والتحالف التركي الخليجي) والمعطيات المذكورة في الباب الثاني. أما المشكلة الثانية فتتعلّق بأخلاق العلم. فتحيين المعطيات بالنظر إلى ما تحقق وتقديمه على أساس أنه استشراف للمستقبل يعصف بأسس علم المستقبليات عصفا يتجاوز تنقيح الكتب المعروف والمشروع ويرتقي إلى درجة الغش والتزوير ويجعله أشبه بملء أوراق لعبة الرهان الرياضي بعد أن تجرى المباريات، لأننا نتقبل الأثر على أساس أنه تنبؤ بالمستقبل لا على أساس أنه وصف لما تمّ بعد وعاينه الباحث. 


لم يكشف الكتاب إذن "المكانة الإقليمية لتركيا 2020" بقدر ما رفع الغطاء عن حاجة العرب عامة إلى معارف دقيقة في علم المستقبليات وإلى أخذ هذا المبحث مأخذ الجدّ على مستوى البحث النظري وعلى مستوى التطبيق العملي البعيد عن التوظيف الإيديولوجي. وهو هدف يظل بعيد المنال فيما نعتقد.

 

إقرأ أيضا: المكانة الإقليمية لتركيا حتى عام 2020: دراسة مستقبلية (1من2)

التعليقات (0)