كتاب عربي 21

إنهم "أعداء" لكنهم يتجملون..

طارق أوشن
1300x600
1300x600

لم يكن تصريح القنصل المغربي بمدينة وهران التي وصف فيها الجزائر ب"الدولة العدو" إلا فصلا من الفصول المتتالية من التصعيد بين البلدين منذ استقلالهما، وهو التصعيد الذي بلغ "ذروته" مع وصول عبد المجيد تبون لسدة حكم قصر المرادية منذ أشهر قليلة كانت كافية لصب كثير من الزيت على نار العلاقات "المتوترة" بين البلدين الجارين. الجديد في موضوع القنصل المغربي هو حالة "التلبس" التي ميزت تصريحه المسجل خفية، في ظروف لا تزال مغيبة عن العامة في البلدين، قبل أن يتم تسريب التسجيل لأهداف بعضها جلي والآخر لا يزال مرشحا للانجلاء.
 
لم تتردد الخارجية الجزائرية، التي صار مقرها محجا لسفراء يتم استدعاؤهم لتبليغ رسائل الاحتجاج أو للتشاور على خلفية تدوينات أو أفلام وثائقية معروضة على قنوات فرنسية مثالا، في توجيه الدعوة للسفير المغربي و"مواجهته" بما صدر عن القنصل بوهران. 

بيان الخارجية الجزائرية اعتبر الأمر في حال ثبوته "إخلالا خطيرا بالأعراف والتقاليد الديبلوماسية"، وهي التي ضمنت نفس البيان لفظة "مواجهة السفير" وكأن الأمر تحقيق أو محاكمة وليس استدعاء ديبلوماسيا لتبليغ رسالة أو احتجاج. 

 

"العداء" المغربي ـ الجزائري متجذّر في الممارسة السياسية بين البلدين، والأزمات بينهما لا تنطفئ جذوتها حتى تتقد من جديد وكأن الصراع بينهما صار "وجوديا"

 


الرد المغربي، وإن حاول في قنواته الديبلوماسية الدفع باتجاه تخفيف التوتر من خلال الحديث عن فبركة التصريح أو الاتصال الهاتفي بين وزير خارجيته بنظيره الجزائري، فقد جاء تصعيديا أيضا على شكل مقالات، منشورة على مواقع معروفة بقربها من بعض دوائر السلطة، اعتبرت أن القنصل لم يجانب الصواب في توصيفه لكنه لم يختر المكان المناسب للحديث. هو إذن مجرد خطأ في الشكل لا في المضمون، فالجزائر، في نظرهم، انتقلت من مرحلة "العداء" إلى "الحرب العدوانية".
 
لم يقتصر "القصف" الإعلامي بين البلدين على "كتاب بالوكالة"، بل تعدى الأمر إلى مقالات في وكالتي الأنباء المعبرتين عن الرأي الرسمي. ففي الوقت الذي اتهمت فيه الوكالة الجزائرية الرباط بـ"التحالف مع الأوساط الصهيونية" لمنع الجزائر من استعادة استقرارها ونموها، خرجت الوكالة المغربية بمقال ترد فيه بوصف الجزائر بأنها "بلد على حافة الهاوية"، وأن نظامها " نظام فوضوي.. وفاسد على وشك الاضمحلال"، بل تعدت الأمر للخوض، لأول مرة، في الحراك الجزائري معتبرة أن مراجعة الدستور المقترحة ما هي إلا مراوغة ومحاولة من النظام الجزائري لـ "خلافة نفسه بالرغم من الحصيلة الكارثية التي دمرت البلاد". 

وأضافت أن "الأغلبية الساحقة من المواطنين والمواطنات تحذوهم إرادة قوية للمضي قدما إلى أن يسترجعوا سيادتهم التي سلبت منهم منذ أمد بعيد".

طوال أشهر الحراك الجزائري، ظل الموقف الرسمي المغربي محافظا على النأي بالنفس في الخوض فيه لدرجة أن تصريحا عابرا لرئيس الاتحاد العام لمقاولات المغرب، وهو تجمع مهني مستقل، كلفه الاستقالة من منصبه بعد بيان للخارجية وصف التصريح بـ "السلوك غير المسؤول والأرعن والمتهور". المثير أن صلاح الدين مزوار، الذي اضطر للاستقالة، كان يشغل منصب وزير الخارجية المغربي في الحكومة السابقة قبل توليه مسؤولية منظمة رجال الأعمال. فما الذي تغير حتى تتولى وكالة الأنباء الرسمية تصريف مواقف أكثر "تطرفا" مما بدر عن صلاح الدين مزوار؟

منذ تولي عبد المجيد تبون رئاسة الجمهورية الجزائرية، لم يتأخر شخصيا عن كيل الاتهامات للرباط في كثير من تصريحاته الصحافية أو مشاركاته في المنتديات الدولية، والتأكيد على الدعم اللامشروط لجبهة البوليساريو الانفصالية بما يعنيه ذلك من "معاداة" لا لبس فيها للمصالح المغربية، ورد سلبي على المبادرات المطالبة بفتح "صفحة جديدة" في العلاقات بين البلدين ووضع الملفات الخلافية جانبا، وهي المطالبات التي انطلقت مع سلفه عبد العزيز بوتفليقة قبل أن يجرفه طوفان الحراك الذي أوقفه فيروس كورونا ولا أحد يعرف أي شكل سيأخذه بعد استئناف الحياة مجراها الطبيعي.  

عبد المجيد تبون كان مصعدا لخطابه ضد الجار المغربي طيلة حملته الانتخابية لدرجة مطالبة الرباط بتقديم "اعتذار" على إغلاق الحدود بين البلدين على خلفية هجمات فندق أطلس أسني في تسعينيات القرن الماضي. وما كان تعيينه للجنرال سعيد شنقريحة رئيسا للأركان، وهو الذي تحتفظ له الذاكرة المغربية، حسب ما نشرته مواقع محلية، بالسبق في وصف البلاد بـ "الدولة العدوة للشعب الجزائري والشعب الصحراوي" على خلفية المناورات العسكرية التي كان مشرفا عليها باعتباره قائد الناحية الثالثة في العام 2016 في تندوف، إلا أن يثير حفيظة الرباط بالنظر لمواقفه السابقة من أي تقارب مغربي جزائري.

 

الاصطفاف إلى جانب الأنظمة لم يكن يوما تعبيرا عن وطنية أو مصلحة قومية. فالبلدان باقية ما بقيت شعوبها صامدة في وجه الاستهداف الداخلي والخارجي. أما الأنظمة فمتغيرة حسب موازين القوى الداخلية وإرادة القوى الخارجية الحامية لمصالحها.

 



"العداء" المغربي ـ الجزائري متجذّر في الممارسة السياسية بين البلدين، والأزمات بينهما لا تنطفئ جذوتها حتى تتقد من جديد وكأن الصراع بينهما صار "وجوديا"، وهو ما ينبئ أن يتحقق ببرقيات تهنئة أو بيانات تذكر بالأخوة والعلاقة بين "الشعبين الشقيقين". المفجع أن "الشعبين" أو جزءا منهما صار، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، طرفا أساسيا في الصراع، حيث تتصيد أطراف من الجانبين وقائع بسيطة ليتم النفخ فيها وتحويلها لساحة صراع وتنابز، تظهر نجاح الدعاية الرسمية في توجيه الأقلام والنقرات في الاتجاه الذي يخدم أجنداتها، بالشكل الذي يتيح لها خلق معارك وهمية تشغل الرأي العام عن مشاكله الحقيقية، وتوهمه بشرف الدفاع عن البلاد وعن الرموز وعن الشرعية وغيرها من التعبيرات الفاقدة لأي حمولة من كثرة ما لاكتها الألسن وتداولتها. 

رياض محرز كان آخر ضحايا الحملات التضليلية وهو الذي يقدم نموذجا حقيقيا عن العلاقة الوجودية بين الشعبين الجزائري والمغربي، فالوالد جزائري والأم مغربية والاختيار بينهما ضرب من الجنون. الاصطفاف إلى جانب الأنظمة لم يكن يوما تعبيرا عن وطنية أو مصلحة قومية. فالبلدان باقية ما بقيت شعوبها صامدة في وجه الاستهداف الداخلي والخارجي. أما الأنظمة فمتغيرة حسب موازين القوى الداخلية وإرادة القوى الخارجية الحامية لمصالحها.

المتتبع للواقع العربي لا يمكنه تصنيف العلاقات بين كثير من دول الجغرافيا العربية إلا بـ "العداء" المستفحل الذي لا ينفع معه علاج. كثير من هذا العداء مرتبط بالتاريخ وخلفياته، وجزء منه مرتبط بتضارب المصالح والرغبة في الهيمنة والانفراد برضا الغرب ووكلائه في المنطقة الذين صاروا بعد كل ما شهدناه "إخوانا". ليس الأمر متعلقا بتنظيم الإخوان المسلمين فهم الأعداء، بل بـ"إخوان" جدد ترسل إليهم المساعدات الإنسانية عبر رحلات مباشرة بغطاء مساعدة الفلسطينيين، الذين يتحولون إلى "أغبياء"، في أفضل النعوت قدحية، برفضهم "الإهانة"، أو التبشير بتولية الصهر، عراب التطبيع مع "أبناء العمومة" في الكيان المحتل، والثورة المضادة في السودان ومصر وسوريا، والعدوان في ليبيا واليمن، والحصار بقطر والتهديد بالفوضى بتونس والمغرب وغيرها من البلدان. 

إنهم أعداء لله ولرسوله وللمؤمنين، ولا مساحيق يمكنها أن تجمل قبح ما اقترفوه، ولا مطهرات تغسل دماء من ماتوا غدرا بدباباتهم وطائراتهم وأيدي المرتزقة ممن باعوا ضمائرهم مقابل فتات مال أو "حج"، طال أمده في الرياض وأبو ظبي، حتى صار سجنا محكم الإغلاق لا مفر منه إلا برسائل مسجلة للعرض على القنوات.

التعليقات (0)