مقالات مختارة

قبل أن يسوقوها إلى «المسلخ»

حسين الرواشدة
1300x600
1300x600

للدين رب يحميه، هذا صحيح، لكن أليس من واجبنا أن ندافع عن حقنا في الحياة وفي التفكير والكرامة، أليس من واجبنا أن ننهض للرد على هذه الافتراءات التي تسوّق باسم التنوير، وهذه الجهالات التي لم تشهدها امتنا في أسوأ مراحل تخلفها، تسألني: كيف؟ أقول لدينا مجالان اثنان يمكن أن نتحرك فيهما، الأول مجال التدين الغلط الذي أعطى لهؤلاء مبررات للهجوم على الدين، وأصحابه هنا كثر، منهم الحمقى الذين اختطفوا الإسلام ورفعوا السكاكين باسمه، ومنهم الذين انحازوا للقمع والاستبداد السياسي واصبحوا شركاءه، ومنهم الذين ركبوا موجة الدين «عن غير علم» لتحقيق مصالحهم، أما المجال الآخر فهو مجال خصوم الدين، من الذين ينطقون لغتنا وينتسبون لديننا، سواء الذين اشهروا عداءهم له وتطرفوا بمواقفهم ضده، أو الذين استثمروا بالإرهاب لإلصاق تهمته بالدين، أو غيرهم من «الأبناء الناجزين» الذين تحولوا إلى أبواق تردد ما يريده الآخر، وتنفذ ما يطلبه منهم دون وازع من وعي أو ضمير.


من جهتي لم أتردد في نقد بعض الأفكار الإسلامية التي خاصمت الحياة واستعدت الآخر، وبعض الاجتهادات الفقهية التاريخية التي انتهت صلاحيتها وأصبحت بحاجة إلى تجديد، وبعض أنماط التدين المغشوش التي كرست لدى المسلم حالة من الشيزوفرينا وحولته إلى آلة تتحرك بأوامر محددة ثم تتوقف، وكأن الدين الذي يحركها أحيانا مرتبط بمواقيت للتشغيل وأخرى للتعطيل، كما أنني لم أتردد بانتقاد فصل الأحكام والتكاليف عن آثارها ومآلاتها أو عن ما يجب أن يترتب عليها من أخلاقيات عامة، وهي اكبر فاجعة أصابت حركة الدين في حياتنا حين تحول إلى طقوس وعادات لا علاقة لها بالسلوك الإنساني ولا بحركة الحياة التي استخلفنا الله فيها من اجل مواجهتها بالبناء والتعمير والإصلاح والتغيير.
لكن، على طرف الخصوم يمكن أن أقول: حين يكون «رأس» الدين مطلوبا، لا تقع مسؤولية الرد على علمائنا ومؤسساتنا الدينية التي تتعرض لموجة شرسة من الاتهامات والإساءات، وإنما علينا جميعا، لان محاولات هدم الدين في حياتنا، وحذفه من مناهج تعليم أبنائنا، وتشويه صورته لدى أجيالنا، تستهدفنا أفرادا ومجتمعات، فهي تريد أن تجردنا من هويتنا، وتلحقنا في قائمة الأمم التي لا تاريخ لها ولا حضارة، وتجعلنا مجرد شعوب طارئة تحركها غرائز الاستهلاك والانتقام، ويسوقها الآخرون إلى «المسلخ» دون أن ترفع «سبابتها» للرفض، ودون أن تستشعر استعلاء كرامتها بالدين لتقول: لا..!.
كان يمكن بالطبع أن نستسلم لمنطق هؤلاء في محاكمة الدين على مسطرة الواقع لو لم يكن لدينا تجربة افرزنا منها بفضل الدين حضارة ما تزال شواهدها قائمة حتى وقتنا الحاضر، فقد كان الدين بالنسبة لامتنا -كما كان لغيرها من الأمم- باعثا للتحرر من الغزاة والمستعمرين، ودافعا للتحضر واليقظة والازدهار، ودليلا لمواجهة الظلم والاستبداد، لكنه حين تعرض، كما تعرضت امتنا، لموجات عاتية من التشكيك والاستهداف والمحاصرة والاستحواذ افرز أسوأ ما لدى أبنائه من أفكار، وبدل أن يستأنف دوره الذي بدأه في انتتاج التحضر الإنساني اصبح للأسف منتجا للاستبداد والتخلف، لا لأنه كذلك وإنما لان الذين استخدموه ووظفوه وحشروه في سجونهم تواطأوا على استدراجه لكي يقع في الفخ الذي نصبوه لنا وله أيضا.

(الدستور الأردنية)

0
التعليقات (0)