مقالات مختارة

العدالة الغائبة عن محاكمة قتلة خاشقجي

سعيد الشهابي
1300x600
1300x600

القضاء من أهم مرتكزات الحكم العادل، لذلك يقتضي الأمر أن يكون مستقلا وليس أداة لنظام الحكم في أي بلد. كما يفترض أن يكون في متناول المواطنين العاديين وليس محصورا بمن يملك المال. فليس مقبولا أن يكون القضاء متوفرا من الناحية القانونية والنظرية، بينما يتعذر على المواطن العادي الوصول إليه عند الحاجة بسبب تكاليفه الباهظة. وثمة توافق على أن أنظمة الاستبداد لا توفر أنظمة قضائية مستقلة تنظر في قضايا المواطنين إذا كانت ذات صبغة سياسية.


وقد وفرت جريمة قتل جمال خاشقجي وتداعياتها وقرارات الادعاء العام مؤخرا بإعدام خمسة من «قتلة» خاشقجي، فرصة لتسليط الضوء على القضاء ودوره في المشروع السياسي الذي تطرحه المعارضات العربية من الشرق إلى الغرب. وبرغم الحديث المستمر عن ضرورة فصل السلطات الثلاث الأساسية التي تعتبر من مستلزمات أنظمة الحكم الحديث، فإن هذا الفصل كثيرا ما يكون مشوشا ومتداخلا. وحتى لو حدث هذا الفصل، فإن هناك سلطات أخرى ذات تأثير مباشر على الحريات العامة لا تخضع للخيار الشعبي، خصوصا أجهزة الأمن والدفاع والإعلام، هذه السلطات تخضع نظريا للسلطة التنفيذية (الحكومة) التي تختلف أساليب تشكيلها، ولكنها في بعض الدول الديمقراطية تتفوق في صلاحياتها على بقية السلطات. مع ذلك يبقى القضاء في الدول الحرة (الديمقراطية) محورا جوهريا للحفاظ على توازن تلك القوى جميعا. هذا القضاء بشكل عام أكثر التزاما بالحياد، ولا يخضع عادة للضغوط السياسية المباشرة، أو الفساد. فما أكثر الساسة الغربيين الذين تشترى خدماتهم بالمال من قبل القوى الأجنبية.

 

وتكشف «سجلات مصالح الأعضاء» في البرلمان البريطاني أن العشرات منهم يستلمون أموالا وهدايا من حكومات السعودية والإمارات والبحرين، ويقومون بزيارات مدفوعة التكاليف لهم ولزوجاتهم إلى هذه الدول لقضاء إجازات في أفخم الفنادق. وفي مقابل ذلك يدافع هؤلاء عن مصالح تلك الدول، ويتصدون لمعارضيها بشراسة ويضغطون على الحكومة البريطانية لمضايقتهم، ويحرضون السلطات الأمنية عليهم. ولدى هذه القوى استثمارات كبيرة في وسائل الإعلام الغربية، فتنفق المليارات من قبل الأنظمة الفاسدة للتأثير على الرأي العام وعلى السياسيين لضمان مواقفهم، ومنع اتخاذهم سياسات لا تتوافق مع مصالح تلك الدول. ومن ذلك استغلال الإعلام لاستهداف زعيم حزب العمال في الانتخابات البريطانية الأخيرة بالنقد اللاذع من قبل وسائل الإعلام الممولة من دول أجنبية ومن سياسيين أيضا، الأمر ساهم في النتائج الانتخابية التي لم تكن متوقعة بالمستوى الذي حدث. هنا لم يكن للقضاء دور في احتواء ظاهرة استغلال النفوذ المالي والسياسي لتوجيه الرأي العام، خصوصا أن هذا القضاء مكلف جدا ولا يستطيع الإنسان العادي الوصول إليه، بالإضافة للبيروقراطية التي تجعل عمله بطيئا ومتعبا للأشخاص الذين يشعرون بالظلامة. ومن هؤلاء معارضون سياسيون خليجيون استهدفوا إعلاميا وأمنيا بلا هوادة، ولكنهم لا يملكون الإمكانات المادية التي تمكنهم من اللجوء إلى القضاء للدفاع عن أنفسهم. وهذا يجعل القضاء، برغم استقلاله، بعيدا عن متناول المظلومين غير القادرين على الوصول إليه للدفاع عن أنفسهم.

وللقضاء في البلدان العربية قصة أخرى. هنا القضاء أداة بيد الحاكمين الذين يهيمنون على السلطات جميعا، هذه السلطات غير مفصولة أبدا؛ فالحاكم هو الذي يعين القضاة، ويعين أعضاء مجالس الشورى غير المنتخبة، ويسيطر على وسائل الإعلام كافة، ويدير أجهزة الأمن التي تنفذ رغباته بحذافيرها، وقد جاءت قضية خاشقجي لتؤكد هذه الحقائق، وما حدث الأسبوع الماضي في الرياض يؤكد ذلك أيضا. فتحت الضغط الدولي اعترفت الحكومة السعودية بقتل الإعلامي المعارض جمال خاشقجي في تشرين الأول/أكتوبر 2018 من قبل مجموعة يعمل أفرادها ضمن أجهزة الأمن السعودية، ولكن الرياض حصرت الجريمة بأفراد ذوي رتب رسمية متدنية، في محاولة لحماية الذين اتخذوا قرار تصفية خاشقجي في أعلى مستويات الحكم.

 

وبرغم الضغوط الإعلامية والحقوقية، استطاعت السعودية ضمان مواقف الدول الغربية القادرة على التأثير على القرار الدولي، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذي حسم الموقف عندما قال بأنه لن يسمح لقضية خاشقجي بالتأثير على العلاقات مع السعودية، بغض النظر عمن اتخذ قرار قتله. ونظرا لاكتشاف أغلب تفصيلات ما جرى، أجبرت الضغوط الإعلامية والحقوقية الرياض على اتخاذ خطوات متواضعة للتظاهر بأنها جادة في متابعة خيوط الجريمة، وقدمت مجموعة من الأشخاص إلى «القضاء». وفي الأسبوع الماضي أعلنت الرياض أن الادعاء العام أصدر قرارا بإعدام خمسة من هؤلاء، دون ذكر أسمائهم. ولم يكن من بين هؤلاء شخصان أساسيان يعتبران حلقة الوصل مع ولي العهد السعودي، الذي اتهم بإصدار قرار التصفية، هما سعد القحطاني وسعود العتيبي. وبعد صدور قرار الإعدام، عاد سعود القحطاني للظهور الإعلامي عبر حسابه في تويتر، قائلا: عدنا والعود أحمد. وفي ذلك تحد واضح لمن اعتقد بأن العدالة ستطاله كذلك.


وثمة حقائق يجدر الإشارة إليها هنا: أولها؛ أن قرار تصفية المرحوم جمال خاشقجي، جاءت من ولي العهد السعودي، وهذه حقيقة أكدتها اجهزة الاستخبارات الغربية، على رأسها سي آي إيه الأمريكية. ثانيها؛ أن القضاء السعودي تابع للحكم، وليس مستقلا أبدا، بل ينفذ ما يطلبه المسؤولون الكبار. ثالثا؛ أن الخمسة الذين «حكموا بالإعدام» لن يعدموا، لأن ذلك سيؤثر على معنويات الآخرين الذين يعملون ضمن دائرة ولي العهد والمرتبطين بحمايته. رابعها؛ أن نمط التعامل السعودي مع المعارضين لن يتغير كثيرا، فستبقى السجون مفتوحة لمن يطالب بالإصلاح السياسي الذي هو أساس لإصلاح أجهزة القضاء والأمن. خامسها؛ أن قتل المعارضين سوف يتواصل، ليس بطريقة الاغتيال التي استخدمت مع خاشقجي، ولكن بالإعدام الميداني كما حدث مرارا في المنطقة الشرقية، أو باستخدام «القضاء» كما حدث مع الشيخ نمر النمر، وقد يحدث مع علماء آخرين مثل الشيخ سلمان العودة والشيخ حسن المالكي وسواهما، ممن طالب الادعاء المرتبط مباشرة بالنظام بإعدامهم.

 

المواقف الدولية بعد صدور الحكم كشفت الفشل في إقناع الجهات الحقوقية والسياسية بعدالة القضاء. فبعد صدور القرار اعتبرت منظمة العفو الدولية أن الحكم «محاولة للتستر على الجريمة، داعية إلى «تحقيق دولي مستقل ونزيه». وقالت لين معلوف، مديرة أبحاث الشرق الأوسط في المنظمة: «هذا الحكم عبارة عن محاولة للتستر على الجريمة، لا يجلب العدالة ولا الحقيقة لجمال خاشقجي وأحبائه. لم يكن للرأي العام والمراقبين المستقلين حضور خلال المحاكمة، مع عدم توفر معلومات عن كيفية إجراء التحقيق». وذكرت معلوف أن «محاكم المملكة العربية السعودية تمنع بشكل روتيني المتهمين من الاتصال بمحامين وتدين الأشخاص بالقتل بعد محاكمات جائرة للغاية، وبالنظر إلى انعدام الشفافية من جانب السلطات السعودية، وفي غياب القضاء المستقل، لا يمكن تحقيق العدالة لجمال خاشقجي إلا عبر تحقيق دولي ومستقل ونزيه».


يمكن القول إن قضية خاشقجي كشفت مشاكل بنيوية لدى النظام السياسي العربي بشكل عام، والسعودي بشكل خاص. فكانت تعبيرا بليغا عن غياب المنظومة السياسية المقبولة اجتماعيا ودوليا وأخلاقيا، وتلخيصا لعقلية الإقصاء التي تصل إلى حد القتل في حالة الاختلاف مع الحاكم أو من يعارضه، وعمقت القناعة بضرورة التغيير السياسي في المنطقة العربية والجزيرة العربية بشكل خاص، ليمكن تطوير منظومة الحكم لتصل إلى مستوى العدل وترويج الحرية، وإقامة حكم القانون وإقامة العدل الذي يمثل القضاء المستقل والنزيه أهم مستلزماته.

 

(القدس العربي اللندنية)

0
التعليقات (0)