في مثل هذه الأيام من العام 1949م، وبالتحديد في الثاني عشر من شهر شباط/ فبراير، استشهد الإمام
حسن البنا بتآمر دولي ومحلي. وبعد أكثر من 69 عاما من استشهاده، ورغم ما يعتري جماعة
الإخوان المسلمين في الوقت الحالي من محن، ما زال فكره حيا، ومنتشرا في ربوع الأرض. ومن هذا الفكر فكره
الاقتصادي. فحينما وصف الإمام البنا الإسلام بأنه "نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا"، لم يكن الاقتصاد غائبا عن تلك الشمولية، فذكر أن الإسلام "دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء"، فوصف الإسلام بأنه مادة أو كسب وغنى. وفي موضع آخر يصف - رحمه الله - جماعة الإخوان المسلمين بأنها شركة اقتصادية. وقد ذكر في تبريره لذلك؛ أن الإسلام يعنى بتدبير المال وكسبه من وجهه، وهو الذي يقول نبيه صلي الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" (رواه أحمد). ويقول: "من أمسي كالاً من عمل يده أمسي مغفوراً له" (رواه الطبراني)، و"إن الله يحب المؤمن المحترف" (رواه الطبراني).
وقد انطلق البناء الاقتصادي في فكر الإمام البنا من بناء الإنسان الاقتصادي الصالح، فقد ذكر الإمام البنا أن "الأمم المجاهدة التي تواجه نهضة جديدة وتجتاز دور انتقال خطير، وتريد أن تبني حياتها المستقبلة على أساس متين يضمن للجيل الناشئ الرفاهة والهناءة، وتطالب بحق مسلوب وعز مغصوب، في حاجة إلى بناء آخر غير هذه الأبنية.. إنها في مسيس الحاجة إلى بناء النفوس وتشييد الأخلاق، وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة، حتى يصمدوا لما يقف في طريقهم من عقبات ويتغلبوا على ما يعترضهم من مصاعب. إن الرجل سر حياة الأمم ومصدر نهضتها، وإن تاريخ الأمم جميعاً إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات. وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة. وإني أعتقد - والتاريخ يؤيدني - أن الرجل الواحد في وسعه أن يبني أمة إن صحت رجولته، وفي وسعه أن يهدمها كذلك إذا توجهت هذه الرجولة إلى ناحية الهدم لا ناحية البناء".
ومن هنا حرص الإمام البنا على بناء الإنسان الاقتصادي الصالح باعتباره هو الذي يصنع الثروة، ولا تصنعه الثروة، وقد بين ذلك بوضوح حيث جعل نحو ربع واجبات الأخ العامل (التي يبلغ إجمالها 38 واجبا) واجبات اقتصادية ممثلة في:
1- أن يزاول عملا اقتصاديا مهما كان غنيا، وأن يقدم العمل الحر مهما كان ضئيلا، وأن يزج بنفسه فيه مهما كان كانت مواهبه العملية.
2- ألا يحرص على الوظيفة الحكومية، وأن يعتبرها أضيق أبواب الرزق ولا يرفضها إذا أتيحت له، ولا يتخل عنها إلا إذا تعارضت تعارضا تاما مع واجبات الدعوة.
3- أن يحرص كل الحرص على أداء مهنته من حيث الإجادة والإتقان، وعدم الغش، وضبط الموعد.
4- أن يكون حسن التقاضي لحقّه، وأن يؤدي حقوق الناس كاملة غير منقوصة بدون طلب، ولا يماطل أبدا.
5 - أن يبتعد عن الميسر بكل أنواعه مهما كان المقصد من ورائها، ويتجنب وسائل الكسب الحرام مهما كان وراءها من ربح عاجل.
6- أن يبتعد عن الربا في جميع المعاملات وأن يطهر منه تماما.
7 - أن يخدم الثروة الإسلامية العامة بتشجيع المصنوعات والمنشآت الاقتصادية الإسلامية، وأن يحرص على القرش فلا يقع في يد غير إسلامية مهما كانت الأحوال، ولا يلبس ولا يأكل إلا من صنع وطنه الإسلامي.
8 - أن يشترك في الدعوة بجزء من ماله، ويؤدي الزكاة الواجبة فيه، وأن يجعل منه حقا معلوما للسائل والمحروم مهما كان دخله ضئيلا.
9 - أن يدخر للطوارئ جزءا من دخله مهما قل، وألا يتورط في الكماليات أبدا.
وحينما ينظر كل عاقل محايد بعين البصيرة لتلك الواجبات وهذا الفكر يجد أنه جمع فأوعى، فبناء إنسان يحمل تلك الخصائص هو بناء للأمة، ولا قيمة لاقتصاد، ولا بنيان له إلا ببناء الإنسان الاقتصادي الصالح الذي يلتزم بتلك الواجبات، فيعمر لا يخرب، ويبني ولا يهدم، ويبتغي الدار الآخرة ولا ينسى نصيبه من الدنيا، ويحسن كما أحسن الله إليه، ولا يبغ الفساد في الأرض.
إن أمتنا في أمس الحاجة إلى التبصر بتلك التوجيهات، والعمل على تحويلها لواقع، فلا تنمية بغير إنسان اقتصادي صالح، يعيش بكرامة، وترفرف عليه راية الحرية والعدالة.. ورغم قتامة الواقع في بلادنا ومرارة ما يعتريه الإنسان فيها من من مهانة وتدمير، فإن دوام الحال من المحال، ومن رحم المحن يولد المنح، وانهيار تلك النظم الظالمة قادم لا محالة. ولكن هل وعت الحركة الإسلامية الدرس؟ وهل أعدت عدتها وسعت لبناء الإنسان الاقتصادي الصالح علما وخلقا وعملا حتى يقوم بدوره كما تمناه الإمام البنا في معركة البنيان التي هي قادمة لا محالة؟