وعد
ترامب
د. حمزة زوبع
وعد ترامب اليهود فأوفى بوعده، رغم أن
القدس ليست تحت الانتداب الأمريكاني، كما كانت
فلسطين قبل قرن تحت الانتداب البريطاني.
لا أعرف ما علاقة ترامب، المتهم بالتحرش من قبل بني وطنه أمريكا، بالتاريخ؛ حتى يزعم أن هناك حقا تاريخيا ودينيا لليهود في القدس وفي عموم فلسطين؟
وما علاقة ترامب بالسياسة والقانون؛ لكي يمنح أرضا لا يملكها لقوات احتلال صهيوني مدان، باعتراف مجلس الأمن والأمم المتحدة؟
وما علاقة
السعودية والأسرة الحاكمة بفلسطين وبالقدس، من ناحية الجغرافيا والتاريخ والملكية، حتى يتنازل ابن سلمان عن القدس ويتطوع بالضغط على محمود عباس (أبو مازن) للقبول بصفقة القرن، وإلا فعليه تحمل عواقب الرفض، وعلى رأسها نقل ترامب لسفارة بلاده إلى القدس واعترافه بها عاصمة أبدية لليهود؟
وما علاقة الجنرال السيسي بفلسطين والقدس أيضا؟ هل تقع في حوزة السلطة المصرية؟ هل هي من ميراث أبيه وأمه؟ هل أوصاه أبواه بالقدس شرا، وأبلغاه أن يوافق على صفقة القرن وعلى الاعتراف بيهودية القدس؟
وما علاقة الصهاينة القادمين من أوروبا بشقيها، قبل توحدها شرقيها وغربها، بفلسطين أصلا، والعالم يعرف أنهم ما كانوا ليعودوا لولا سمح لهم بذلك، وساعدتهم حكومات أوروبية، سواء من أوروبا الشرقية أو الغربية آنذاك؟
العلاقة بين كل ما سبق هو في السطور التالية: أمير شاب يرى أن مستقبله مرهون بدفع رسوم الرعاية والحماية للحاكم الأمريكي؛ من أجل تمكينه من السلطة، ولو على جثة أعمامه وأبنائهم، وصهاينة يرون أن الوقت قد حان لإنهاء قضية فلسطين وتحويلها إلى مجموعة قضايا فرعية، ولا يمكن ذلك دون اعتراف أكبر دولتين في المنطقة.. فلم لا نستغل حاجة الأمير وشبقه للسلطة والملك، وحاجة الجنرال للاعتراف بشرعية حكمه، ونراهن على ضعفهما؟ وحاكم أمريكي يهتز عرشه ويعتقد أن ترضية اللوبي الصهيوني هي كلمة السر في رفع الحصار المفروض عليه من قبل المشرعين في الكونجرس؟ وكانت القدس هي الضحية التي اعتقدوا أنه بمقدورهم التهامها.
لا السيسي يمثل الفلسطينيين، ولا المسلمون أوكلوه نائبا عنهم في التفاوض في قضية فلسطين، ولا ترامب مُنح تفويضا من مجلس الأمن ولا من الأمم المتحدة، ولا الصهاينة لهم أي حق في أي شبر في فلسطين أو المنطقة بأسرها، ولا أي حاكم في المنطقة لديه صك أرض القدس ليبيعها أو يهديها لهم خالصة من دون الأمم.
مجرد حفنة من المراهقين السياسيين العرب؛ تلاعب بهم الصهاينة الماكرون، وأقنعوهم بأن الربيع العربي خطر على عروشهم، فاستداروا نحو شعوبهم قتلا وسحلا وسجنا وإبعادا، ودمروا بلادهم والبلاد المجاورة، من اليمن وسوريا وليبيا والعراق والصومال، وكان لزاما عليهم رد الجميل للصهاينة، هذا باختصار هو ما يجري وبدون فلسفة.
لعلك تابعت ردود فعل الحكام في مصر والسعودية، وكيف صمتوا صمت الجبال، واختبأ السيسي في شرم الشيخ مقنعا نفسه بأن يرأس مؤتمرا اقتصاديا إفريقيا، ولما واتته الفرصة للحديث، لم يأت على ذكر الموضوع الذي تحدثت عنه كل وسائل الإعلام العالمية، وبجميع اللغات، وانطلقت رافضة له المظاهرات في شتى بقاع الأرض.. لم يكلف السيسي نفسه أن يصدر بيانا رافضا لترامب.. وهل يجرؤ على فعل ذلك؟ أما بن سلمان فلعله كان مشغولا بموضوع لوحة ليوناردو دافينتشي التي اشتراها وأهداها لمتحف في أبو ظبي.. وبلغت قيمتها نصف مليار دولار.. أي نعم نصف مليار دولار.
بيع القدس أو وعد ترامب تم الترتيب له في صيف هذا العام، عندما جمع ترامب زعماء العالم الإسلامي في الرياض وأوهمهم أن الإسلام مصدر خطر، وعليهم إيقاف هذا الخطر، وطلب نظير حمايتهم من خطر الإرهاب أن يدفعوا نصف تريليون دولار، فوافقوا كلهم أجمعون ودفعوا وهم صاغرون. ثم سمح ترامب للسعودية والإمارات بالضغط على قطر لكي تستجيب وتنصاع لوعد ترامب، من دون مناقشة، ولما عبرت قطر عن رأيها قبل أن تعبر عن غضبها، تم استئذان ترامب في غزوها، فوافق، ثم تردد حين رأى ردات الفعل الأوروبية، لكنه (أي ترامب) ظل مصرا على إغلاق صوت الجزيرة، و إلا سيبقى الحصار مضروبا.
ظن ترامب، بعد أن ضمن صمت السيسي وابن سلمان، أن الوقت مناسب لإهداء القدس للصهاينة، وما درى ترامب أن هذه خطوة غبية بامتياز؛ لأنه ليس له دراية بتاريخ الأمة وعلاقتها الوطيدة بالقدس وكل المقدسات.
انطلقت مظاهرات الغضب وأطلق الفلسطينيون انتفاضتهم، وخرجت الجماهير حتى في مصر المحاصرة، وأزهرها المخنوق وجامعاتها المكلومة في شبابها، في الوقت الذي تم إسكات صوت خطباء الحرمين، لدرجة أن أحد الأئمة، وفي خطبة الجمعة الماضية، تحدث عن تعاقب الفصول، وآخر عن بر الوالدين، تناغما مع تعليمات ابن سلمان الذي أمر رجال دينه وعلماء قصره؛ بالصمت تجاه بيع الأقصى، وما علم أن السكوت عن الأقصى المقدس يعني السكوت غدا عن المسجد الحرام أو المسجد النبوي الشريف.
غابت الجامعة العربية، وتلكأ اجتماع وزرائها، ليفاجأ الجميع بأن الأشاوس هددوا وتوعدوا ترامب بأنه إن لم يتراجع عما قرره سوف يعقدون قمة عربية خلال شهر.. ومن ساعتها وترامب حائر خائف يترقب؛ يسأل المارة من حوله: أحقا سيعقدون قمة عربية من أجل القدس؟
ما أعلنه ترامب لا يشكل مفاجأة في ظل الوضع العربي الراهن، ولكنني لم أتوقع أن تصل الوقاحة بالبعض لأن يتوارى ويختفي بهذه الخسة، ولا يطلق حتى تصريحا يندد فيه بوعد ترامب أو يرفضه، أو حتى يقول له يا ترامب راجع قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن قبل أن تتحدث بما لا تعلم!!
كلهم صمتوا، ولكن هذه المرة ليس عن جهل، بل سبق إصرار وترصد. وهذه هي الحسنة الوحيدة لما جرى، وهي أن اللعب أصبح على المكشوف بين الشعوب العربية وحكامها المغتصبين للسلطة.
بعد قرن على وعد بلفور وسايكس بيكو، ها نحن أمام صفقة القرن لتصفية القضية وتسليم الصهاينة فلسطين عبر وعد ترامب.. ما أشبه الليلة بالبارحة، مع فارق بسيط؛ هو أننا نرى الخيانة على رؤوس الأشهداء.
لعنة الله على الظالمين.