أفكَار

هل أذن الله للجن بالتحكم في الإنسان والسيطرة عليه؟

أثار موضوع تلبس الجن للإنسان سجالا شرعيا ودينيا- تعبيرية
قال الراقي السعودي، عبد الله الشمري "إن الجني إذا كان قويا، وتلبس بإنسي فإنه يتحكم في شعوره وأفكاره وحركته، حتى يصل درجة الجنون والقتل، لذا فإن إرسال الجني المتلبس للإنسي رسائل عبر الواتس أب من خلال هاتف الإنسي يعتبر شيئا طبيعا"، على حد قوله. 

وكان لافتا ومثيرا ما قاله الشمري عبر مشاركته في حلقة الاثنين، 28 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، من برنامج "الثامنة" الذي يقدمه الإعلامي السعودي داود الشريان، على قناة "إم بي سي"، أن "بعض الجن من عشاق الجسد، لا يخرجون من ذلك الجسد ولو أدّى ذلك إلى قتلهم"، والذي يتم بالقرآن بحسب الشمري.  

ووفقا لباحثين شرعيين فإن ما قاله الشمري حول تلبس الجني بالإنسي، ودخوله في بدنه، وتحكمه فيه، وسيطرته عليه، يكاد يكون هو الاعتقاد السائد لدى غالبية المسلمين، تبعا لما هو مقرر في غالب المدونات المرجعية الإسلامية.

وما يثير الاستغراب في شيوع تلك الأفكار وتداولها على نطاق واسع، عدم ورود نصوص شرعية تعفي الممسوس الفاقد لعقله وإرادته، من تبعة أفعاله وتصرفاته، التي تقع منه وهو مغلوب على أمره، بحكم تلبس الجن به، وتحكمه فيه، بحسب الداعية والباحث الشرعي الأردني، عبد الفتاح عمر. 

علاقة الجان بالإنسان الوسوسة والتزيين  

وأضاف عمر لـ"عربي21" أنه "لو كان الأمر في حقيقته مطابقا لما هو متداول في أوساط إسلامية عريضة، فإن من الطبيعي أن يخصص الفقهاء أبوابا لبحث كل ما يتعلق بحال الإنسان حينما يتلبسه الجني، وما يترتب على ذلك من أحكام فقهية استثنائية".
 
وتساءل عمر: "من أين تسربت هذه الأفكار إلى عقول المسلمين، مع أنه لا يوجد في نصوص الشريعة ما يثبت تلك الدعاوى بطريقة واضحة وصريحة؟"، مشيرا إلى دراسة للمحقق حسان عبد المنان، ضعّف فيها كل الأحاديث التي يستدلون بها على إثبات تلبس الجني بالإنسي، ودخوله في بدنه.

وجوابا عن سؤال "ما هي طبيعة العلاقة بين الجان والإنسان؟"، فقد بيّن عمر أن "تلك العلاقة لا تتعدى الوسوسة والإغواء وتزيين المعاصي، مستدلا بقوله تعالى {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}، ولو كان له سلطان عليهم غير دعوتهم، لكذبوه بما اقترفه من تلبسه ـ وأتباعه ـ لهم، وتحكمه بهم، وسيطرته المادية عليهم".

وحذر عمر من أن شيوع تلك الأفكار يجلب مفاسد كبيرة على المسلمين، خاصة تلك العلاقة المتوهمة في تناكح الجن والإنس، لافتا إلى وقوع حالات ادعت فيها نساء سيطرة الجن عليهن، وممارسة الجنس معهن، ثم يُكتشف بعدها تورطهن في علاقات محرمة، فلا تجد الواحدة منهن سبيلا للتخلص من تبعة ذلك إلا بتعليقه على مشجب الجن. 

وأوضح عمر أنه من خلال بحثه المتواصل منذ سنوات طويلة، لم يقف على أدلة شرعية صحيحة وصريحة يمكن الاستدلال بها على مسألة تحكم الجني في الإنسي، وسيطرته عليه، وسلبه إرادته، مبينا أن للجن عالمهم الخاص بهم، وهم مما غيب عنا، ولا نعلم عنهم إلا بقدر ما أوضحته النصوص الشرعية الثابتة الصريحة.

التلبس ثابت والجن يتشكلون

ويستند مثبتو وقوع تلبس الجني بالإنسي، وصرعه له، بنصوص شرعية كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية، ثم يتبعونها بحكاية اتفاق أهل السنة والجماعة على ذلك.

وحينما سرد أبو الحسن الأشعري، مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة الذي خالفوا به المعتزلة وغيرهم، كان مما قاله: "وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله"، إلى أن قال: "وأن الشيطان يوسوس الإنسان ويشككه ويخبطه، خلافا للمعتزلة والجهمية، كما قال تعالى (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)". 

وينقل معتقدو وقوع تلبس الجني بالإنسي كلاما لابن تيمية، قال فيه: "دخول الجن في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة"، وفي قول آخر: "ليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك وادّعى أن الشرع يكذب ذلك، فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك". 

ومما يغذي حكايات تلبس الجان بالإنسان، وتدخلهم في حياة الناس بصورة مادية مباشرة، ما ورد عن تشكل الجن بصور وهيئات مختلفة، كظهورهم على صورة إنسان، أو على هيئة حيات وأفاعي، أو كلاب وقطط سود، وهو ما يشيع حالة رهاب وهلع شديدة من احتمالية تشكل الجن على تلك الصور والهيئات. 

في هذا السياق، أوضح أستاذ الحديث وعلومه المساعد في جامعة الملك خالد السعودية، الدكتور لطفي الزغير، أن تشكل الجان بالإنسان وغير ذلك من الصور والهيئات أمر مفروغ منه، وقد وردت فيه نصوص كثيرة.

واستدل الزغير بالآية الكريمة {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ..}، مشيرا إلى ما ذكره المفسرون من أن "الشيطان تشكل لهم بصورة سراقة بن مالك، وأنه قال هذا القول عندما رأى الملائكة في معركة بدر.. وكذلك قصة الشيطان الذي تمثل لأبي هريرة رضي الله عنه وهو يحفظ أموال الصدقات".

وجوابا عن سؤال "عربي21" عن ما إذا كانت روايات تشكل الجن خاصة بزمن النبوة، أم إنها عامة قابلة للوقوع في كل زمان، قال الزغير: "لم يرد في أي نص أن هذه الروايات خاصة بزمن النبي، ولا تخصيص إلا بمخصص، والمخصص غير موجود، فيبقى الأمر على عمومه". 

وأضاف: "بل إن هناك روايات تؤكد هذا الأمر، وفيها إشارات إلى أن هذا التشكل سيقع في أزمنة لاحقة، كبعض الروايات الواردة في صحيح مسلم وغيره".

لكن كيف يمكن التفريق بين جني تشكل على صورة إنسان أو أفعى أو كلب أسود، وبين حقائق تلك الصور والهيئات؟

استنادا إلى ما قاله الزغير، فإنه "لا توجد علامة نستطيع بها التفريق بين الحيوان الذي  تشكل به الجني وغيره سوى اللون (الكلب الأسود)"، مستدركا بأن "ذلك لا يعني أن كل ذي لون أسود من الجن".

وتابع موضحا: "بما أنه لا توجد علامات تدل على التشكل أو عدمه، فعلى المرء أن يحتاط دوما بالاستعاذة من الجن، أو رفع الأذان إن شك بوجود شيء من ذلك".

وخلص الزغير إلى القول "إن الأصل في الجن والشياطين، انفصالهم عن عالم الإنس إلا ما مكنهم الله به من الوسوسة دون رؤيتهم.. ولهذا لم يلتفت العلماء إلى امرأة زعمت أنها حملت سفاحا من جني لأن هذا سيفتح بابا لن يغلق".

اضطرابات نفسية واختلال في كيمياء الدماغ

تتشابه إلى حد التطابق غالب الأعراض التي يعزوها كثير من الرقاة إلى عالم الجن، مع تلك الأعراض الناتجة عن أمراض نفسية معروفة، ومصنفة تصنيفا دقيقا في المراجع الأكاديمية لدراسات الطب النفسي، بحسب الاختصاصي في الطب النفسي، الدكتور علاء ضامن الفروخ.

وأشار الفروخ إلى أنه وجد من خلال ممارسته الطبية أن كثيرا من تلك الحالات التي يقال إنها ناتجة عن مس جني، أو صرع شيطاني، أو سحر، ما هي إلا حالات نفسية ذات منشأ نفسي وعقلي، وأن كثيرا منها تستجيب للعلاجات السلوكية والدوائية الموصوفة لتلك الحالات.

وردا على سؤال "عربي21" حول "ما إذا عرضت عليه حالات، قيل عنها إنها مس جني، أو صرع شيطاني، ثم تبين له أنها أمراض نفسيه استجابت للعلاجات المخصصة لها"، ذكر الفروخ أن عدة حالات من هذا القبيل عرضت عليه، وبالفعل حدث أنها "استجابت للعلاجات الدوائية والسلوكية".

وشرح الفروخ أن من ضمن الأمراض المعروفة في الطب النفسي، حالات "الهلوسات السمعية والبصرية"، وهي التي يتخيل فيها المريض وجود من يكلمه، ويتراءى له في صور مختلفة، والأمر راجع في رمته إلى اختلال في كيمياء المخ، تستجيب في غالب الأحيان للأدوية المخصصة لتلك الحالات.

وفسر الفروخ ما يقال عن حالات التناكح بين الإنس والجن، بأنها ضرب من ضروب الهلوسات التي تقع للمرضى، وقد مرت عليه حالات أكدت له ذلك، إحداها وقعت لسيدة متدينة جدا، كانت تشتكي من غلبة جني عليها، وممارسته الجنس معها، وقد شفيت تماما، وتخلصت من تلك الهلوسات بعد أخذها الأدوية اللازمة.