مقالات مختارة

إسلام فرنسا...وقيم الجمهورية

1300x600
بعد عقود من الزمن ما زالت فرنسا تراوح نفسها بالنسبة لتعاملها مع الإسلام والمسلمين الذين يعيشون فوق أراضيها. فرنسا حسب كل المعايير فشلت في احتواء وفي التعامل مع الإسلام بطريقة علمية ومنهجية وموضوعية، على عكس دول غربية أخرى فشلت فرنسا في التعامل مع المسلمين بعيدا عن العنصرية والغطرسة والتعالي والتهميش والكيل بمكيالين، والدليل على ذلك هو المهزلة التي عاشتها في الأسابيع الأخيرة فيما يتعلق بقضية "البوركيني" حيث لاحظنا الإجراء التعسفي والعنصري لبعض البلديات، الذي قابله القضاء الفرنسي بالرفض القاطع حيث اعتبر منع "البوركيني" في الشواطئ مساسا بالحريات الفردية. ومن قال إن العلمانية تتناقض مع الحريات الفردية ولا تحترمها؟ وهنا نلاحظ التناقض الصارخ عند الساسة الفرنسيين فيما يخص قيم الجمهورية التي يتغنون بها، فهذه القيم لا تتدخل في الحريات الفردية للأشخاص ولا تتدخل في لباسهم ومعتقداتهم.

أصدر وزير الداخلية الفرنسي برنارد كازنوف قرارا يقضي بتعيين الوزير الاشتراكي الأسبق جان بيار شوفينمان على رأس "مؤسسة الإسلام في فرنسا"، بعد تصريحات أدلى بها في "قضية البوركيني" دعا فيها المسلمين إلى التزام بعض "الخفر" في حضورهم العام. وبرر كازنوف في مقال في صحيفة "لا كروا" الفرنسية قراره، بثقته بأن "شوفينمان يعرف العالم الإسلامي جيدا، كما أن التزامه بالعلمانية لا جدال فيه"، بالإضافة إلى إيمانه الكبير بالجمهورية. وكانت تصريحات أدلى بها شوفينمان، وهو وزير داخلية أسبق، خلال الأسابيع الماضية أثارت جدلا حين نصح مسلمي فرنسا ببذل الجهد والحفاظ على "الخفر" في أثناء وجودهم في الفضاء العمومي، على خلفية قرار حكومي بمنع ارتداء "البوركيني" على الشواطئ العامة. وأوضح شوفينمان الذي يترأس "الحركة الجمهورية والمواطنية" رؤيته للإسلام في حوار إذاعي، اعتبر خلالها أن "إسلام فرنسا يجب أن يكون مستقلا في تمويله وفي فكره". أما قضية البوركيني نفسها التي تشهد نقاشات وانقسامات في الأوساط السياسية والمجتمعية، فأرجعها شوفينمان إلى "مشكلة في الاندماج"، وأوضح أن "جميع موجات الهجرة المتتالية إلى فرنسا انضبطت وواءمت عاداتها وتقاليدها بحسب البلد المضيف" منبها إلى تصاعد الأصولية الدينية.

يبدو أن الوضع الدولي والحرب على الإرهاب وتداعيات 11 سبتمبر كلها تركت بصماتها على النقاش الذي يدور حاليا في فرنسا حول الحجاب. وقد يتساءل سائل ويقول لماذا لم تفكر فرنسا قبل عشرين سنة في معالجة المشكلة بهذه الطريقة، مع العلم أن قضية الحجاب في فرنسا قديمة قدم وجود المسلمين في فرنسا، هؤلاء المسلمون الذين حاربوا في صفوفها إبان الحرب العالمية الأولى والثانية، والذين دافعوا عن ألوانها الوطنية في مختلف المحافل الدولية وفي مختلف المناسبات الرياضية العالمية. فيبدو أن عدوى "الإسلاموفوبيا" وعدوى الإرهاب قد انتشرت في الشارع الفرنسي كما في الأوساط السياسية الفرنسية، وهذا يشير إلى فشل حوار الحضارات والديانات وفشل فهم الآخر، وبكل بساطة أصبح الإسلام يُفسر ويُشرح وفق الصور النمطية ووفق الحملات الدعائية المغرضة التي تفرغه من محتواه وتشوهه، وتجعل منه دين العنف ودين "الأربع زوجات" ودين الطغيان وإقصاء الآخر ودين الاستبداد والإرهاب. وانطلاقا من سوء الفهم ومن انعدام محاولة فهم الآخر، وانطلاقا من الاعتماد على حفنة من المحسوبين على الإسلام والحاقدين عليه، قد يكون جاك شيراك الرئيس الفرنسي قد ارتكب خطأ فادحا قد لا يغفره له التاريخ ولا تغفره له الثورة الفرنسية بمبادئها الإنسانية وبقيمها العالمية في التسامح واحترام آدمية الإنسان وحرياته الفردية. والعالم يحتفل بذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يلاحظ أن هذه الحقوق تُغتصب وتنُتهك يوما بعد يوم، ومن قبل تلك الدول الكبرى التي نظّرت لحقوق الإنسان والتي تتغنى بها ومن المفروض أن تحميها وتدافع عنها. صحيح أن الموضوع شأن فرنسي داخلي، لكن هذا لا يمنع خمسة ملايين مسلم في فرنسا من حرية ممارسة دينهم وشعائرهم وعقيدتهم. وأن مساواة القلنسوة والصلبان الكبيرة بالحجاب ما هو إلا جهل تام بالدين الإسلامي وبفلسفته وأهدافه ومبادئه، وقد يكون العيب في المسلمين في جميع ربوع العالم وفي فرنسا في فشلهم في تفسير وشرح هذا الدين العظيم للشارع الفرنسي وللرأي العام العالمي؛ فسوء فهمنا من قبل الآخر يعني فشلنا في التواصل معه والتحاور معه وإبراز قيمنا وديننا ومبادئنا له، وهنا يكمن جوهر الموضوع.

"إسلام فرنسا" مفهوم يسعى لجعل مسلمي فرنسا يمارسون الديانة الإسلامية بشكل ملائم ومتناغم مع قيم الجمهورية وتعاليم النظام العلماني الفرنسي"، وهي محاولة لإدخال الممارسة الدينية في الحياة الخاصة ومحاولة تغييبها من الفضاء العام" ويرى الإمام الفرنسي الشاب محمد باجرافيل، أحد الأئمة في بلدية إيفري سور سين شمالي فرنسا، أن "إسلام فرنسا" يعني أن "الإسلام سيكون ضمن مكونات المشهد الفرنسي سواء أريد ذلك أو لا". ويدافع باجرافيل وهو مؤلف كتاب "إسلام فرنسا" في حوار مع القناة الفرنسية الخامسة عن هذا المفهوم بالقول: "الإسلام عالمي يمكن أن تتم أقلمته مع أي شخص أو مكان"، وهو ما يبرر، حسب نظره، ضرورة وجود تلك المؤسسة. هل يكون "وصفة سحرية"؟ يرى كاتب الافتتاحيات الفرنسي إيف تريار أن مؤسسة إسلام فرنسا "لن توقف صعود الإسلام المتشدد" في البلاد. ويقول في مقال قدمه على إذاعة "أوروب 1" إن مروجي الأفكار المتشددة لا يوجدون فقط في المساجد، بل "في جوجل وفي ياهو" وغيرهما من المواقع على الإنترنت. ويوضح الطوسة هذه النقطة بالقول: "الهدف من كل هذه التغييرات في المشهد الإسلامي الفرنسي، هو محاولة قيام سياج سميك بين مسلمي فرنسا والعقيدة المتشددة التي تنشر العنف وتلهم الإرهاب". لكنه يتساءل: "هل هذه الخطوات السياسية والتنظيمية التي تقوم بها فرنسا كافية للوصول إلى هذه الأهداف؟" في نظر الكثيرين الخطاب المتشدد الإرهابي لا يمر حتما عن طريق المساجد أو الجمعيات الدينية، لكن ما يجب أن تفعله فرنسا هو التقليص من حجم الموارد البشرية المهمشة التي يمكن أن تمنح آذانا صاغية لهذه المجموعات الإرهابية وتتجاوب مع أجندتها السياسية.

ويستبعد رئيس المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلام غالب بن الشيخ من جانبه في حديث مع موقع قناة "الحرة"، أن تقدم "مؤسسة إسلام فرنسا" حلولا فورية للفكر المتشدد في البلاد، مستدلا على ذلك بوجود تجارب سابقة مماثلة "باءت بالفشل". وتم إنشاء هذه المؤسسة على أنقاض مؤسسة أخرى جرى إعلان تأسيسها سنة 2005، لكنها لم تفلح في اجتثاث الأفكار المتشددة من فرنسا. إسلام فرنسا تحول إلى رهان سياسي وانتخابي تتسارع عليه الأحزاب السياسية. في الواقع لا توجد أي علاقة بين التطرف الديني والإسلام وإن هذا الأخير له مكانته الكاملة في فرنسا.

في حقيقة الأمر لا يوجد إسلام فرنسي وإسلام أمريكي وبريطاني وأفغاني وإيراني، كل ما في الأمر أن هناك دينا عالميا يصلح لكل مكان وزمان، قائما على قيم إنسانية عالمية تحترم إنسانية الإنسان مهما كان لونه أو عرقه أو جنسيته أو مكانته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. الإسلام الذي تريده فرنسا هو أن يتجرد المسلم من قيم الدين الحنيف السمحاء، ويذوب في مجتمع يتغنى بالعلمانية ويسيسها لمحاربة الدين الإسلامي.

الشرق القطرية