منذ تولي حزب العدالة والتنمية إدارة الجمهورية التركية، وهو يعمل على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لتحقيق عدة أهداف، أهمها تحقيق قفزة اقتصادية واسعة عندما تصبح
تركيا مركزا صناعيا وتجاريا لأوروبا، وتحقيق مكاسب أمنية وسياسية.
إضافة إلى ذلك، كانت القيادة التركية تهدف بالانضمام إلى الاتحاد، الدوران في فلك الديموقراطية الأوروبية النابذة لحكم العسكر، وهو ما يضمن قطع الطريق على أية انقلابات للمؤسسة العسكرية على الحزب الحاكم.
موقف الاتحاد الأوروبي تجاه انضمام تركيا اتسم بالمراوغة والتلكؤ والتعنت، حيث تقود فرنسا رأيا رافضا مبنيا على مخاوف من التمدد الإسلامي إلى قلب
أوروبا، والذي تزداد خطورته بعد انضمام تركيا إلى الاتحاد بحسب هذه النظرة.
ما دعم هذه النظرة الأوروبية مؤخرا تنامي نفوذ اليمين المتطرف في الدول الأوروبية، والذي كان أبرز مظاهره خروج بريطانيا من الاتحاد، وهو ما نتج عن تأثير اليمين المتطرف على الرأي العام، بإثارة المخاوف من المد الإسلامي وتنامي الهجرة الإسلامية إلى أوروبا، والتحذير من انضمام تركيا المسلمة إلى الاتحاد.
وسرعان ما أطلق اليمين في دول أوروبية أخرى - أبرزها فرنسا - دعوة إلى الاستفتاء للخروج من الاتحاد الأوروبي على غرار ما تم في بريطانيا.
وعلى الرغم من الرفض الأوروبي المقنع لانضمام تركيا إلى الاتحاد، تضطر أوروبا إلى الحفاظ على قنوات الالتقاء مع تركيا عضو الناتو، التي تمتلك أدوات ضغط على الغرب، أبرزها ورقة اللاجئين، حيث تتخوف أوروبا من فتح تركيا الحدود الأوروبية أمام تدفق اللاجئين.
الانقلاب الفاشل الذي داهم تركيا منتصف يوليو الماضي، جاء ليسدل الستار - من وجهة نظري - على فكرة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، حيث جاء رد الفعل الأوروبي باهتا بطيئا ضعيفا لا ينسجم مع شعارات الديموقراطية التي تترنم بها أوروبا المبنية على احترام إرادة الشعوب، ما يعكس عدم القبول الأوروبي لتركيا.
أوروبا - ومعها أمريكا - لم تدعم الحكومة التركية في أولى فترات الانقلاب، ووقفت ترقب المآلات دون فعل ما ينبغي فعله إزاء حكومة دولة منتخبة وفق آليات الديموقراطية، وعضو في الناتو.
بل ذهبت أوروبا إلى أبعد من ذلك، حيث أظهرت نقمتها على إجراءات التطهير الطبيعية التي تقوم بها القيادة التركية ضد عناصر الانقلاب والمتورطين في التخطيط له وتنفيذه بشكل أو بآخر.
أردوغان وجّه نقدا لاذعا للموقف الأوروبي، واتهم الغرب بأنه لا يريد لتركيا أن تكون دولة ديموقراطية قوية.
من الواضح أن الانقلاب أظهر النية الأوروبية التي تعرقل انضمام تركيا إلى الاتحاد، وبعد أن كانت أوروبا تتعلّل بعدم اكتمال الملفات التركية المؤهلة لانضمامها، ها هي تتذرع بأن ما يقوم به أردوغان من إجراءات التطهير يأخذ بالدولة إلى حكم الرجل الواحد، والقضاء على الوجه الديموقراطي.
الحقيقة التي يرفض الكثيرون الخوض فيها، هي أن أوروبا ترى في الاتحاد بيتا مسيحيا ليس فيه موطئ قدم لدولة مسلمة.
تركيا شهدت طفرة اقتصادية، وأصبحت قوة إقليمية كبيرة، ولها قيمتها الدولية، خاضت تجربة ديموقراطية فريدة، دلت عليها جميع الاستحقاقات الانتخابية السابقة التي كانت تترجم رغبة الشعب، كما أن حكومة العدالة والتنمية فضلت مسار الحل الدبلوماسي مع قضية الأكراد، وقطعت فيه شوطا على خلاف مزاج القوميين في تركيا، فمن غير المعقول أن تشكك أوروبا في وجهها الديموقراطي.
لكن موقف الاتحاد الأوروبي من الانقلاب وتداعياته، جاء في سياق طبيعي بعد ظهور توجهات القيادة الرامية إلى أسلمة الحياة في تركيا، والتي بناها أردوغان على أمرين:
الأول: الازدهار الاقتصادي الذي يجعل الشعب التركي يهرول وراء التجربة ويقبل مفرداتها وعناصرها والقائمين عليها وتوجهاتهم.
الثاني: إعادة تركيا إلى أحضان العالم الإسلامي بعد حوالي 100 عام من الانفصال الذي أحدثته العلمانية المتطرفة.
لا يمكن الجزم بما إذا كانت القيادة التركية لا تزال تأمل في دخول الاتحاد، باستخدام أوراق الضغط، وأبرزها ملف اللاجئين، والتقارب مع روسيا الذي يزعج أوروبا، إضافة إلى كون تركيا عضوا هاما في التحالف الدولي الذي يواجه تنظيم داعش.
لكن حتما ستستفيد تركيا من استمرار محاولات الانضمام للاتحاد، حيث يظهر الرغبة التركية في الانفتاح على دول العالم الغربي تفاديا لدخولها في عزلة دولية.
وأما أوروبا، فمن وجهة نظري ستظل تعتمد على تباين موقف ونظرة الدول الأوروبية تجاه تركيا، وهو ما يجعلها تمسك العصا من المنتصف، ففي الوقت الذي يعلن وزير الخارجية النمساوي سيباستيان كورز أن بلاده ستعارض فتح فصول جديدة من مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد، بسبب ما أسماه حملة القمع الكبيرة، تؤكد وزيرة الخارجية السويدية مارغو والستروم مواصلة بلادها دعم تركيا من أجل الانضمام إلى دول الاتحاد الأوروبي.
من وجهة نظري، سترجح كفة المخاوف على المصالح الأوروبية، خاصة في ظل تنامي نفوذ اليمين المتطرف، ولن تسمح أوروبا بانضمام تركيا، لا سيما وهي تدرك أن أنقرة تتعرض لمؤامرات تشترك فيها أطراف غربية وعربية للإطاحة بحكومة العدالة والتنمية، وصعود تيارات تغير المعادلة في قضية اللاجئين، وتفصل الشعب التركي عن تراثه وهويته.
وعلى الرغم من ذلك، لن تتعجل أوروبا بحسم القضية، فالحسم ليس من مصلحتها، لذلك ستلجأ إلى إبقاء هذه القضية في مسار اللانهاية، ستستمر في وضع العراقيل، وفي الوقت نفسه ستبقي الباب أمام المفاوضات مواربا.