كتاب عربي 21

طبخة الحصى متواصلة في تونس

1300x600
يستعمل أهل الحاضرة (تونس العاصمة) مثلا شعبيا أعتقد أنه مستقى من حكاية المرأة التي تلهي أولادها عن جوعهم بطبخة حصى حتى يناموا.

فهم يقولون فلان يُغَلِّي لفلان الطنجرة، عندما يكون أحدهم بصدد سفسطة شخص ليصرف اهتمامه عن موضوع محرج. السفسطة هنا ليست تمرينا فلسفيا في إثبات وجود العدم أو نفى الوجود بالموجود.

ولكنها نمط من الحكم يعتمد على استنزاف صبر الناس ودفعهم إلى الملل وفرض أمر واقع عليهم. إنها التعبير الأنسب عما تفعل حكومتنا ورئيسنا وأحزابنا المتآلفة بعد انتخابات 2014. 

برنامج يُدَوِّخُ

قال الباجي مؤسس حزب النداء وهو يتقدم للانتخابات أن لديه برنامجا لتونس يدوخ العباقرة وأن أكثر من ألف خبير سهروا على إعداده وأن لديه أيضا أربع حكومات جاهزة لبدء العمل وما عليه إلا الاختيار بين الكفاءات العبقرية المتوفرة.

لكن الصورة الآن فاضحة. هذا الحزب خدع الجميع وغَلَّى لهم الطنجرة. مدار نشاط ما تبقى من الحزب الان (بعد سنتين) برنامج وحيد أن يتدبر عفوا كاملا شاملا لطبقة رجال الأعمال الفاسدة التي صنعها بن علي التي خنست أيام الثورة ثم عادت زاحفة عبر صناعة حزب النداء وتمويله والتحكم في قراراته في اتجاه واحد فرض.

مصالحة مغشوشة على حساب العدالة الانتقالية بإعادة تدوير العملية الاقتصادية لصالح هؤلاء الأثرياء بأسلوب بن علي ذاته، الرشوة السياسية والإفلات من القانون عبر ترميم شبكة الفساد والمحسوبية في الداخل والاستزلام لرأس المال الطيار العابر للحدود (اقتصاد مناولة تابع وغير مؤسس ولا يستهدف الاستقلال الاقتصادي عبر تطوير القدرات الذاتية في الزمن).

تدبرت طبقة مستثمري الخدمات السياحية أمرها بعد العملية الإرهابية في سوسة فحصلت على إعفاء من ديون وتخفيف ضرائب ومساعدات عينية باسم إنقاذ الموسم السياحي. 

تمت رسملة البنوك التجارية المفلسة وإسقاط ديون غير مكفولة بضمانات أو رهون ونجا أصحابها من المحاسبة بدون جدولة ديونهم.

منع التطرق إلى قضية الموارد المنجمية والطاقية واعتبر الملف من أسرار الدولة لا يسمح بنشره أو الاقتراب منه.

منع القضاء من تنفيذ أحكام باتة بالمصادرة على أموال رجال النظام السابق وتمارض الأمن كي يسقط الإجراء، وإشعار القضاء بأن رجال النظام السابق خطوط  حمراء.

لقد تبين أن حزب النداء في قيامه وفي استمراره وفي انشقاقه كذلك ليس إلا صنيعة طبقة بن علي المحترفة في استنزاف القطاع العام وتخريب الاقتصاد الوطني، التي كانت الثورة فرصة لها لطرد عائلة بن علي التي كانت تلتهم أكثر منها ليس إلا.
 
أثبت الباجي ابن النظام و،هو يعرف تركيبة المجتمع وطبيعة هذه الطبقة، وقد رآها تبنى منذ السبعينيات بالخصوص، وهو أحد أركانها، فقدم لها وعوده بالنجاة من المحاسبة فنصرته بالمال وبجهاز الحزب القديم (الماكينة الانتخابية الغبية)، وهو الآن بصدد رد الجميل زاعما حماية الدولة من السقوط. ومن هنا كان تدخله بشخصه ونفوذه الراهن لكي يمنع تنفيذ أحكام على أحد أصهار الرئيس.

في هذه المرحلة من مراجعة مسار الثورة لا نراه يعمل على إعادة هيبة الدولة ولا على بناء مشروعها المجتمعي، بل نرى فقط مناورات يومية ليعود أغنياء تونس للتحكم فيها على هواهم، وصرف حصى الطبخة للطبقات التي أملت خيرا في التغيير السلمي. والمجتمع التونسي العميق (وأعني به الطبقات الشعبية المفقرة في الأرياف والهوامش الحضرية) الآن يقف أمام خيارين، إما الإحباط المطلق والعودة إلى حظيرة الطاعة المستكينة لحكم هذه الطبقة أو التمرد الكامل والعودة إلى الشارع، وقلب الطاولة على الجميع.

فضح مناورة التخويف بالإرهاب

سوَّقت الهيئة الحاكمة بعد 2014 حتمية الوحدة الوطنية في مواجهة الإرهاب. وكان هذا حق أريد به باطل. فأمام التهديد الإرهابي تصير المطالب الاجتماعية خيانة. لكن معركة بن قردان (وهي منطقة مهمشة) بينت أن الشعب العميق حريص على دولته ويحميها بأفضل مما تقترح السلطة.  

قال أهل بن قردان نحن مواطنون لدولة، ولكن هل هذه الدولة لمواطنيها؟ لقد أسقطوا سفسطة الوحدة الوطنية كما تروِّج لها السلطة. وكانت خلاصة المعركة أن "الوطن موحد في مواجهة الإرهاب، فهاتوا التنمية".  

مواطنو أرخبيل قرقنة الذين احتجوا في شهر نيسان/ أبريل، قالوا نحن في الوطن أيضا (ولو كنا في جزيرة) ولكن أين حقنا في التنمية.
 
رد السلطة كان عنيفا. لقد انكشفت الحيلة (لا وجود لإرهاب في قرقنة) هنا مرة أخرى تعود السلطة إلى مأزقها ليس لديها برنامج ولا حلول.  

الأمر يتجاوزها بمراحل. فالتنمية يلزمها مال، والمال عند الطبقة الفاسدة، وهذه الطبقة لا تتحمل مسؤوليتها. ولو كانت تفعل لفعلت مع مربيها ومدللها السابق (بن علي).  

ابتزاز  الرئيس حتى الثمالة

لقد تبين أن الطبقة ليست آمنة بعد، وهي تقايض الرئيس بعدم تأمين حياته السياسية حتى نهاية المدة (2019)، وهي واقفة بعد تحت سيف هيئة الحقيقة والكرامة وهيئة مقاومة الفساد. لذلك تعمل على توسيع صلاحيات الرئيس الذي يملك المبادرة التشريعية بنص الدستور، ويعدّ رئيسا بصلاحيات واسعة وكافية ليقدم مشاريع قوانين تتعلق بالتنمية ولا يحتاج مزيدا من الصلاحيات إلا إذا كانت هناك نية مبيتة لما يخدم  هذه الطبقة.

من هنا نفهم طبخة الحصى والإمعان فيها بمحاولة تعديل الدستور لمنح صلاحيات أوسع لرئيس الجمهورية.  

الغاية إذن تمكينه دون العودة إلى البرلمان من منح العفو عن الطبقة الفاسدة. ولهذه الغاية بالذات، يحاول ترويض شريكه في الحكم الذي يبدو أنه بدأ يحسب طريق العودة من تحالف يستنزف شعبيته. 

الرئيس وحكومته الآن في وضع الاختيار الصعب بين ترضية المافيا أو ترضية الشارع الذي لولاه لما خرج من مواته السياسي.

لقد أظهر في سنواته الأخيرة قدرة كبيرة على المناورة، وسيسجل له التاريخ أنه فكك لغم الإسلام السياسي وأخضعه. وسواء فعل ذلك باملاءات خارجية (بعد لقاء باريس المشهور مع الغنوشي) أو فعله قناعة بحاجة الدولة إلى السلم الأهلي، فإن هذه الحنكة تقف عاجزة أمام طبقة رجال الأعمال التي يسميها كثيرون بطبقة المافيا.

لقد قسموا حزبه وأضعفوا سنده البرلماني، ولم يمدوا له يد العون في المسائل الاجتماعية، رغم حصولهم على الكثير من المكاسب. وهو يعيش تحت تهديد بتحريك الشارع وإسقاط حكومة الحد الأدنى التي تسير البلد الآن، ما قد يدفع إلى حالة من الشلل السياسي يكون هو المسؤول المباشر عنها.

ودون حزبه، لن يكون قادرا على استعادة المبادرة، ما قد يدفعه إلى الاعتماد أكثر على حليفه الإسلامي (حزب النهضة) وهو ما لا يرغب فيه، إذ يبدو أن الباجي (ابن النظام السابق) حدد مسبقا مكان النهضة، ووضع لها سقوفا خلاصتها (لن نقتلكم ولكن لن نسمح لكم بالحكم).

هل من أفق للأمل؟

الهامش الاجتماعي يتحرك باستمرار ويراكم، وإن كان مشتتا بعد. آخر التحركات في قرقنة، ولن تكون الأخيرة ردت بقوة على الحل الأمني وأسقطته فعلا ورمزا في الماء. عملية دمغ الشارع بالإرهاب لم تعد تنطلي والإرهاب نفسه يتراجع .

الشعب العميق ليس ضد الدولة، لكنه رفع ثانية (الشعب يريد إسقاط النظام). و(التشغيل استحقاق يا عصابة السراق). يجب إيقاف طبخة الحصى. لقد غلت الطنجرة بما يكفي ولم ينم الأطفال. والمطلوب الآن مبادرة شجاعة. لا يوجد في الساحة فاروق يحمل الدقيق للعجوز، ولكن عودة الحكومة والرئيس والأحزاب (بما فيها المعارضة المتربصة للفشل دون إعداد حلول) إلى حقيقة الوضع والاعتراف بالتيه.

طبقة المافيات لا علاقة لها بالشعب، والثورة، والوطن.. ومواصلة تدليلها على حساب تنمية البلد في الداخل وإعادة بنائه بمنوال تنمية وطني هو الحل.
 
من لها؟ أفق من التوقعات غير القابلة للضبط.. لعل هذا هو جوهر الثورة السلمية أن تقوم بتهرئة القديم وفضحه.. والشعب أيضا يغلي طنجرته للمافيا. ولا يبدو أن ملف أوراق بنما سينقذ هذه العصابة من المحاسبة. في الفيزياء الاجتماعية أيضا، الطبيعة تأبى الفراغ.