ملفات وتقارير

القصة الكاملة لإمبراطورية فساد في مصر اسمها "القمح"

كان الهدف من نظام البطاقات الذكية هو القضاء على الفساد- أرشيفية
لم ينج القمح من خطط التلاعب التي تنتهجها بعض المخابز وكذا شركات استيراد القمح بمصر من أجل التربح السريع، ولمحاربة هذا التلاعب أنشأت الحكومة المصرية نظاما للبطاقات الذكية وشددت الرقابة، لتحمي بذلك منتوجا حيويا لعشرات الملايين من فقراء الجمهورية، خصوصا أن مصر تعتبر أكبر مستورد للقمح في العالم.

وسبق أن كان نقص القمح سببا في أعمال شغب في الماضي، وعندما انتفض المصريون على حكم حسني مبارك عام 2011 كان أحد هتافاتهم الرئيسية "عيش (خبز) حرية عدالة اجتماعية".
 
وقد عادت الضغوط خلال الأشهر القليلة الماضية بعد أن واجهت مصر احتمال نقص القمح بسبب حظر مشدد على استيراد الشحنات المصابة بفطر الإرجوت الشائع، غير أن أصعب آفة يجب القضاء عليها هي الفساد.
 
في 2014 بدأت الحكومة بتطبيق نظام للبطاقات الذكية يهدف إلى وقف المخابز التي تتلاعب ببيع الدقيق (الطحين) الذي تدعمه الحكومة في السوق السوداء عن العمل.
 
تقول القاهرة إن هذا النظام حقق نجاحا كبيرا وأدى إلى توفير ملايين الدولارات من دعم الخبز، وقلص الواردات، وأدى إلى القضاء على الطوابير الطويلة التي انتشرت في أنحاء البلاد.
 
غير أن مسؤولي صناعة الدقيق وتجارا وأصحاب مخابز يقولون إن هذه الإصلاحات فشلت وأدت إلى تدهور النظام.
 
وقالت ثمانية مصادر في صناعة القمح إن نظام البطاقات الذكية يمكن التلاعب فيه بما يتيح لبعض أصحاب المخابز تزييف الفواتير وطلب كميات أكبر كثيرا من القمح المدعوم من الكميات التي باعوها بالفعل.
 
وقال منتقدو النظام إنه بدلا من تقليل كمية الدقيق التي تسدد الدولة مقابلا نقديا لها فإن نظام البطاقات الذكية زادها في واقع الأمر. وأطلق ذلك موجة من عمليات الاحتيال على نطاق أوسع في سلسلة الإمدادات، تقول المصادر إنها كلفت البلاد مئات الملايين من الدولارات في العام الماضي.
 
وتشير إحصاءات داخلية أعدتها وزارة التموين إلى أن مشاكل نظام البطاقات الذكية كبيرة. وتبين البيانات أن استهلاك الدقيق الذي تدعمه الدولة ارتفع في أوائل 2015 في 12 محافظة من بين 19 محافظة طبق فيها النظام.
 
وفي شباط/ فبراير من عام 2015 بلغ حجم استهلاك الدقيق المدعم 955 ألف طن حسبما توضح البيانات ارتفاعا من 750 ألف طن في الشهر نفسه من العام السابق.
 
وتسلم الحكومة بوجود مشاكل صاحبت تطبيق نظام البطاقات الذكية في بداياته وأدت إلى ارتفاع الاستهلاك، لكنها قالت إن المشكلة محدودة وتم التعامل معها.
 
اختراق نظام البطاقات الذكية
 
كان الهدف من نظام البطاقات الذكية هو القضاء على الفساد.
 
وتقضي الخطة بمنح كل أسرة بطاقة ذكية تسمح لها بشراء خمسة أرغفة صغيرة من الخبز لكل فرد من أفراد الأسرة يوميا. ويتعين على كل أسرة تمرير البطاقة عبر جهاز في كل مرة تشتري فيها الخبز حتى تتمكن وزارة التمويل من تتبع كميات الخبز التي يبيعها كل مخبز، ثم تدفع الحكومة دعما لكل مخبز عن كل رغيف.
 
وحتى تطبيق نظام البطاقات الذكية كانت الوزارة تعتمد على ما تقرره المخابز من كميات الخبز التي تبيعها. لكن كثيرا من المخابز كانت تبالغ في الكميات ثم تبيع الكمية الإضافية في السوق السوداء.

وقالت الحكومة إن النظام الجديد أدى إلى توقف مبالغات المخابز.
 
لكن أربعة من أصحاب المخابز وثلاثة من تجار القمح ومسؤول بإحدى المطاحن قالوا إنه من الممكن التحايل على النظام.
 
فالبطاقات الذكية والأجهزة التي تقرأ بياناتها صنعتها شركة "سمارت" الخاصة في القاهرة. ويقول التجار وأصحاب المخابز إن بعض العاملين في "سمارت" أنتجوا سرا بطاقات تماثل البطاقات الذكية العادية لكنها تمثل بطاقات رئيسية أو عمومية يمكنها التحكم في النظام.
 
ويمكن لأصحاب المخابز باستخدام هذه البطاقة إعادة ضبط النظام ثم تمرير البطاقات الذكية العادية عبر الجهاز عدة مرات. وقال بعض أصحاب المخابز المنافسين إن موظفين في شركة سمارت باعوا أجهزة الغش لمخابز مقابل عدة آلاف من الدولارات.
 
ووصف بقال في ضاحية حلوان جنوبي القاهرة كيف يغش التجار في الحي النظام. وقال البقال: "يتم إدخال البطاقة في الجهاز والحصة المصروفة لكن يمكن عندئذ أن يعيد الجهاز ضبط البطاقة بما يسمح بإنفاق المزيد".
 
وقال إن أصحاب المخابز الذين رفضوا المشاركة في خطة الاحتيال أبلغوا وزارة التموين التي بدأت فيما بعد تضيق الخناق على التجار.
 
وامتنعت شركة سمارت عن الرد على طلبات للتعليق.
 
وسلم وزير التموين حنفي بأن نظام البطاقات الذكية تعرض لخطر التلاعب، لكنه وصف المشاكل بأنها "هامشية للغاية وبسيطة". وقال إن الوزارة تحقق على الفور في أي زيادة مشبوهة في استهلاك الدقيق.
 
وقال الوزير: "بالطبع أي نظام على الإنترنت... يتعرض لنسبة بسيطة جدا للاختراق"، لكنه أضاف: "إذا حدثت أي زيادة غير مبررة في الاستهلاك يتوجه مسؤولونا مباشرة ويتكفلون بالأمر".
 
وقال عطية حماد، رئيس شعبة المخابز في الغرفة التجارية للقاهرة، إن الحكومة أغلقت عشرات المخابز بسبب الغش، وألقت بكثيرين من أصحاب المخابز في السجن.
 
وقال حمد وهو يجلس في مكتبه الصغير داخل مخبز حكومي في حي الزاوية وهو من أحياء الطبقة العاملة بالقاهرة، إنه رغم الإجراءات المشددة والقيود الجديدة على كمية الدقيق التي يمكن لكل مخبز شراؤها فمازال من الممكن التلاعب في النظام باستخدام البطاقات غير الرسمية.
 
وقال حنفي إنه تمت معالجة المشاكل.
 
محصول وفير
 
وغذى انخفاض مخزونات القمح شكلا آخر من أشكال الاحتيال.
 
ففي حزيران/ يونيو الماضي قالت وزارة التموين إنها اشترت بفضل المحصول المحلي الوفير 5.3 ملايين طن من القمح المحلي وهي كمية قياسية ارتفاعا من 3.5 ملايين طن سنويا في السنوات القليلة الماضية.
 
لكن التجار ومسؤولي المطاحن يقولون إن المحصول لم يكن أكبر من العادي. ويقدر هؤلاء أن نحو مليوني طن من الكمية التي قالت الحكومة إنها اشترتها وتبلغ 5.3 ملايين طن إما تم استيرادها من الخارج أو لم يكن لها وجود سوى على الورق.
 
ويقول التجار ومسؤولو المطاحن والمستشار السابق للوزير إن شركات باعت قمحا مستوردا للوزارة على اعتبار أنه قمح مصري حتى يمكنها أن تحصل على سعر القمح المدعم الأفضل.
 
ودفعت الدولة حوالي 370 دولارا للطن من القمح المحلي وفقا للبيانات الحكومية المنشورة، أي 150 دولارا للطن أعلى من السعر العالمي في الصفقات الفورية.
 
وقال هشام سليمان، من "ميد ستار للتجارة"، وهي شركة متوسطة الحجم تعمل في مجال استيراد القمح، إنه قدم شكوى إلى البنك المركزي بأن حجم المحصول غير دقيق، ويجعل من الصعب على الشركات الخاصة قياس الطلب وتقدير حجم الواردات المطلوبة.
 
وأضاف أن المحصول الوفير "لم يتحقق خلال 30 أو 40 عاما".
 
وقال وليد دياب، العضو المنتدب لشركة الطحانون المصريون، وهي إحدى الشركات الكبرى الثلاث في مجال الطحن، إن وزارة التموين سمحت لنظام "فاسد" بالاستمرار "للتغطية على انخفاض الاحتياطيات الإستراتيجية.
 
وتقدر المصادر إجمالا أن الإمدادات المحلية حققت ملياري جنيه إضافية (255 مليون دولار) من خلال بيع قمح مستورد للوزارة.
 
القمح الشبح
 
شركة التيسير للمحاصيل الزراعية ومقرها القاهرة هي واحدة من بين عدة شركات قالت المصادر إنها استفادت من أزمة العام الماضي.
 
فالمحامي جاد البالغ من العمر 29 عاما الذي تعرض لإطلاق النار كان يعمل في شركة التيسير، ويقول إن الشركة باعت للحكومة قمحا لا وجود له في ظل الإسراع لسد النقص الكبير في القمح.
 
وقال جاد إنه لا توجد بصوامع الشركة مساحة كافية للاحتفاظ بكل القمح الذي قالت الشركة إنها باعته.
 
وتظهر الوثائق بين شركة التيسير ووزارة التموين وبعض الجهات الحكومية الأخرى أن الشركة باعت للحكومة مئات آلاف الأطنان من القمح في 2015. وتتضمن تلك الوثائق التي جمعها جاد أثناء عمله في الشركة، واطلعت عليها "رويترز"، إيصالات من الحكومة وعقود استيراد وتقارير حكومية عن الصوامع.
 
ويظهر أحد عقود البيع التي أبرمتها شركة التيسير أن الشركة باعت للحكومة 102 ألف و625 طنا من القمح من صومعة تابعة للشركة تعرف باسم "هنأجر المصنع".
 
غير أن مفتشين من وزارة التموين فحصوا الصومعة في 2013 ووجدوا أن طاقتها التخزينية تقل قليلا عن 10 لاف طن وفقا لما أظهره سجل تفتيش من وزارة التموين.
 
وقال جاد إن المفتشين عادوا العام الماضي للقيام بعملية تفتيش جديدة ووجدوا أن مساحة التخزين بلغت 102 ألف طن. وأضاف أنه جرى توسيع وحدة التخزين في الفترة بين 2013 و2015 ولكن بمقدار قليل جدا قد لا يتجاوز بضعة آلاف من الأطنان.
 
ويقول دياب، صاحب المطحن، إن الحكومة عدلت الطاقة التخزينية لكثير من صوامع القمح العام الماضي كي تبرر الكميات التي لا يمكن تخزينها في الواقع. وأضاف "حدث ذلك في جميع أنحاء البلاد".
 
ونفى حنفي، وزير التموين، أن يكون هناك أي غش، وعزا هذا الالتباس إلى تعديلات في كيفية إدارة سلسلة الإمداد. ويحجم حنفي ووزارته منذ ذلك الحين عن الرد على طلبات للإدلاء بمزيد من التفاصيل.
 
وقالت شركة التيسير للمحاصيل الزراعية، إنها لم تزيف قط مشترياتها من القمح، وإنها لا تعرف إجمالي طاقتها التخزينية ولا يمكنها تحديد الكمية التي باعتها للحكومة.
 
وأشارت الشركة إلى أن من المستحيل غش الحكومة التي قالت إنها تفرض رقابة قوية. وقالت الشركة إنه تم ضبط جاد وهو يحاول سرقة أموال من الشركة ثم حاول بعد ذلك ابتزازها.
 
ونفى جاد مزاعم الشركة التي استقال منها في أوائل أيلول/ سبتمبر وأقام دعوى عليها أمام هيئة الرقابة الإدارية قال فيها إن الشركة زورت مشتريات القمح المحلي. وبعد مرور شهر تعرض جاد لإطلاق النار بعدما جذبت القضية اهتمام وسائل الإعلام المحلية.
 
وفي كانون الأول/ ديسمبر قررت هيئة الرقابة المالية عدم إحالة قضية مشتريات شركة التيسير للمحاصيل الزراعية إلى المحكمة. وأحجمت هيئة الرقابة عن التعليق على القضية.
 
وفي الشهر الماضي تراجعت الحكومة عن خطة لإصلاح منظومة دعم القمح. كان الإصلاح المقترح يقضي بشراء القمح من المزارعين المصريين بالأسعار العالمية مع تقديم دعم مباشر أقل حجما لإزاحة وسطاء مثل التيسير. وقال كثير من الخبراء إن ذلك كان سيقضي على الفساد الذي ظهر العام الماضي وإنهم يخشون أن يؤدي قرار إلغاء الإصلاح إلى مزيد من المشكلات.
 
وقال سليمان من "ميد ستار للتجارة" بعد إعلان التراجع عن الإصلاح: "لم يتعلموا الدرس من الموسم الماضي".
 
وقال جاد الذي كان يأمل يوما بأن تسلط قضيته الضوء على الفساد المستشري في قطاع القمح إنه فقد الأمل في تغيير أي شيء.
 
وأضاف: "لا إرادة لدى الدولة للتعامل مع هذا الأمر... لا يفعلون سوى الاستمرار على النهج نفسه... إذ لم يخبرهم أحد بأنهم يرتكبون أي خطأ، اعتدنا على ذلك، تلك هي مصر".