اضطرت شريحة كبيرة من السوريين إلى تغيير نمط حياتها تبعا للتطورات الناتجة عن الحرب التي ارتبطت بشكل مباشر لا سيما مع التراجع الحاد لليرة السورية مقابل
الدولار الأمريكي، الذي سجل مؤخرا ارتفاعا بعشرة مقارنة بسعر الصرف قبل انطلاق الثورة، وهو ما دفع الناس للتفكير جديا باستخدام الدولار كملاذ آمن.
ففي مناطق ريف دمشق المحاصرة يتم التعامل منذ فترة ليست بالقصيرة؛ بالدولار الأمريكي كمرجع في المعاملات المالية، حتى لو تم التبادل عند البيع والشراء بالليرة السورية، وهو ما ستتجه إليه المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، كالمناطق المهادنة على تخوم دمشق التي تحوي مئات الآلاف من أبناء العاصمة وريفها، ممن لجأوا إلى تلك المناطق لتجنب الاعتقال، وهربا من الملاحقة الأمنية المشددة من جانب النظام السوري، بحسب الناشط محمد الشامي.
وقال الشامي في حديث لـ"عربي21" إن تذبذب سعر صرف الدولار والتدهور المستمر لليرة، دفع بالكثيرين للتعامل بالدولار الأمريكي، في قدسيا على سبيل المثال، وذلك بالنسبة لعمليات البيع والشراء الكبيرة وطويلة المدى، موضحا أنه "من غير المعقول شراء مواد بسعر 350 ليرة سورية للدولار، وبيعها عندما يرتفع الدولار وصولا إلى 450 ليرة، ما يضاعف السعر في بعض الأحيان على المشتري الذي بالكاد يستطيع تأمين قوته اليومي بسبب غلاء الأسعار الشديد".
أما أبو محمود، الناشط في حي القابون، فقال لـ"عربي21" إن أسعار المواد الغذائية في الحي مرتفعة مقارنة بالأسعار في باقي مناطق مدينة دمشق، بسبب الحصار الجزئي المفروض على الحي، وحظر إدخال عدد من المواد الأساسية بشكل متكرر من قبل حواجز النظام للضغط على القائمين على الحي، الذي يضم العديد من النازحين من أبناء الغوطة الشرقية والريف الدمشقي.
وحمل أبو محمود جزءا من مسؤولية ارتفاع الأسعار لجشع التجار الذين يشترون بالدولار ويتذرعون بارتفاع
سعر الصرف لرفع الأسعار على المستهلك، مشيرا إلى أن سعر الكيلوغرام الواحد من الأرز يبلغ حوالي 600 ليرة بعد هبوط
الليرة أمام الدولار مؤخرا، بعد أن كان حوالي 500 ليرة منذ قرابة الشهر. وارتفع سعر السكر في الفترة ذاتها من 250 ليرة إلى 325 ليرة للكيلوغرام الواحد، وهو ما لا يستطيع سكان الحي تحمله بسبب البطالة أو الإصابة أو فقدان المعيل.
ويوضح أبو محمود أنه لولا بعض الجمعيات الخيرية والإغاثية "لكان الوضع كارثيا"، خاصة في ظل امتناع الشباب، وحتى بعض النساء، عن التوجه إلى دمشق خشية الاعتقال، "فتحولت مثل هذه الأحياء إلى كانتونات يسعى من فيها فقط لتأمين طعامهم اليومي، فأعيد إحياء عشرات المهن البدائية، لكن المهنة الأفضل هي التهريب"، كما يقول.
وتقول المواطنة آلاء، من حي برزة الذي دخل بهدنة مع النظام منذ عامين، إنها تعيل أربعة أطفال بعد وفاة زوجها على يد قناص تابع للنظام في الغوطة.
وذكرت لـ"عربي21" أنها استطاعت الخروج من الغوطة منذ أكثر من عام، لكنها لم تستطع العثور على أي عمل لإعالة أطفالها، إلى أن ازدهر التهريب من دمشق عبر المناطق المهادنة إلى الغوطة، فباتت تذهب إلى العاصمة دمشق لشراء بعض السكر والبرغل والطحين والرز والزيت برفقة أطفالها، ثم تدخل هذه المواد إلى المنطقة المهادنة، حيث تقوم ببيعها إلى التجار الذين يشترون منها ومن العشرات ممن يقومون بهذا العمل مقابل دولار أمريكي واحد في كل مرة.
وأشارت إلى أنها تخرج مرتين يوميا وأحيانا ثلاث مرات، رغم أنها تتعرض يوميا للمضايقات على الحواجز، وحدث وأن صودر ما تحمله أكثر من مرة، لكنها لا تملك خيارا سوى الاستمرار بهذا العمل الذي يساعدها في إعالة أطفالها، إلى جانب معونة شهرية تتلقاها من المكاتب الإغاثية، وفق قولها.
أما محمد، فبعد أن قتل النظام والده وأخاه في المعقتلات، وتم الاستيلاء على كل ما يملكون، أصبح معيلا لأمه وإخوته، لكن من أين العمل في منطقة مهادنة فيها آلاف الشباب ممن يخشون الاعتقال أو متخفون عن الأعين هربا من تجنيد النظام لهم؟
ويضيف لـ"عربي21" أنه ظل عاطلا عن العمل لأكثر من 18 شهرا، معتمدا على أقربائه، وعلى مساعدة الجمعيات الخيرية، قبل أن يزدهر التهريب. ويأتي دوره بعد مرحلة إدخال المواد من قبل السيدة آلاء ومثيلاتها، فيقوم بفرز هذه المواد وتغليفها وتحضيرها استعدادا لنقلها إلى داخل المناطق المحاصرة عبر السيارات والعربات والدراجات الهوائية وسيرا على الأقدام في سلسلة معقدة من الإجراءات، حسب وصفه.
ويحصل محمد على ثلاثة دولارات يوميا لقاء عمله الذي من الممكن أن يمتد لـ13 ساعة يوميا، فيما كان يعمل سابقا بحوالي 20 دولارا يوميا قبل الثورة. ويوضح أن ما يتقاضاه يكاد لا يذكر أمام ما يربحه التجار يوميا، حيث يحول هؤلاء آلاف الدولارات إلى بنوك في البلدان المجاورة، كأرباح عن أعمال التهريب التي تدر أموالا طائلة، خاصة مع تمكن هؤلاء التجار من الاستحواذ على كميات كبيرة من
العملات الأجنبية، وبالتالي التحكم بسعر الصرف المحلية، بالإضافة للتعامل مع بعض مسؤولي النظام للتلاعب بالسعر وتحويل العملة من وإلى البلاد.
ويقول عدد من خبراء الاقتصاد إن تذبذب أسعار الصرف وانخفاض سعر الليرة المستمر؛ قد يكون من مصلحة النظام الذي فرض التعامل والتحويل بالليرة، ولا يزال يصرف الرواتب بالليرة، حيث كان متوسط راتب الموظف 15 ألف ليرة أي ما يعادل 300 دولار، بينما وصل دخل الموظف اليوم إلى 25 ألف ليرة لكنه يعادل 50 دولارا فقط. ومع ذلك، يحاول النظام السيطرة على سعر الصرف بالطرق كافة، التي يمتلكها دون جدوى بسبب تقلبات الساحة الميدانية.
ومن المتوقع أن يسجل سعر الصرف انهيارا كبيرا في حال حصول أي تدخل برّي، فيما شهد سعر الليرة تراجعا في الأيام الماضية بالفعل، وهو ما عزاه حاكم البنك المركزي أديب ميالة الذي قال إن "الارتفاع الأخير في سعر الصرف (للدولار مقابل الليرة)، جاء بسبب زيادة الطلب شمال حلب نتيجة هروب الإرهابيين وعائلاتهم باتجاه تركيا"، وفق قوله.