كتاب عربي 21

شعب يتآمر على نفسه !

1300x600
كل من حولنا يتآمرون علينا ، الشرق والغرب ، القريب والبعيد ، كل مشكلة تقابلنا وكل إخفاق وتعثر وفشل يمكننا تبريره بنظرية المؤامرة التي تحاصرنا من كل جانب، الإخوان أكبر شماعة في تاريخ مصر يمكن الاتكاء عليها؛ فهم سبب انهيار السياحة و غرق الاسكندرية والمحافظات، وهم سبب إضراب أمناء الشرطة في الشرقية، وسبب انقطاع الكهرباء وسبب أزمة الدولار، وسبب أزمة المرور وسبب انهيار العمارات، وسبب انهيار الأندلس وسبب مجزرة استاد بورسعيد، وسبب مجزرة استاد الدفاع الجوي وسبب كل مصيبة وبلوى. هكذا صارت مصر تتعاطى عقار المؤامرة ويصيب الناس الهوس الذي يصحبه أعراض التشنج، وإلغاء العقل والاستسلام للخرافات والأوهام. شعب علم الدنيا الحضارة قبل سبعة آلاف سنة يغرق الآن في هذا التيه والتغييب اللامتناهٍ!

تحتل مصر المركز قبل الأخير على مستوى العالم في جودة التعليم، ولا يرون في ذلك مؤامرة صنعها الفشل والتغييب المستمر على مدار عقود متتالية. تنهار البنية التحتية للبلاد وتغرق في شبر ماء ولا يرون في ذلك مؤامرة صنعها الفساد وتولية أهل الثقة وليس الكفاءة، وعدم محاسبة المفسدين والسارقين، يمرح الفاسدون في البلاد ويتولون أعلى المناصب ويزايدون على الشرفاء ولا يرى المغيبون في ذلك مؤامرة نتاجها مزيد من الفشل والانحدار. 

يموت الناس بعد أن يئسوا من الحصول على خدمة صحية لائقة وينهار قطاع الصحة يوما بعد يوم ويتساقط الأطباء، ليتحولوا لمرضى ثم موتى لأن بدل الحماية من العدوى بضعة جنيهات لهم، بينما لغيرهم من المهن التي لا مخاطر صحية فيها يتعدى عدة آلاف من الجنيهات، ولا زال هؤلاء لا يدركون حجم المؤامرة على صحة المصريين، الذين تفشى فيهم التهاب الكبد الوبائي والفشل الكلوي، وغيرها من الأمراض التي تقع مصر على رؤوس قوائمها!

يتم إخراس كل الأصوات المختلفة والرافضة للانتظام والخضوع في فلك السلطان، ويتم إخلاء الساحة لأحط الناس عقلا وفكرا وخلقا ليتصدروا منابر التوجيه ومخاطبة الرأي العام، فيشيعوا الجهل والخرافة والانحطاط النفسي والفكري، ولا يرى هؤلاء أن هذه مؤامرة على وعي شعب وضميره. 

ينهار الاقتصاد ويصرخ الفقراء وتسحقهم نار الغلاء، بينما أحاديث الانجازات الوهمية والمليارات المتدفقة يعلو في كل الشاشات وينطلق من كل الإذاعات، يبيعون للناس وهما فارغا ولا يعتبرون أن بيع الأمل الكاذب هو مؤامرة كبرى تقتل أحلام الناس وتجهض عزيمتهم. 

يزرعون في نفوس الناس عجرفة الوطنية الفارغة ويكادون يقنعونهم أنهم من جنس آخر غير البشر، ويقولون لهم إننا أصحاب الريادة في كل شيء، بينما الحقيقة أننا نتذيل الأمم في أغلب الأشياء ولايرانا الآخرون إلا عالة على الدنيا. 

يقولون للبسطاء إن الدول العظمى كلها تخطط لإسقاطنا! وكأننا لسنا ساقطين أصلا، وإذا لم يكن السقوط ما نحن فيه الآن فما هو السقوط؟ قسمونا لشعبين لا يطيق أحدهما الآخر ويراه يستحق القتل، مجتمع مزقته خطابات الكراهية وأحرقته نيران الاستقطاب، ولا يرون في ذلك مؤامرة اكتوى بها الجميع وستدفع ثمنها الأجيال القادمة. 

نحن شعب يتآمر على نفسه بامتياز وهو يصدق هذا الخبل ويتعاطاه. نحن شعب يتآمر على نفسه وهو يعتقد أن بلده ستحيا بهذه الشعارات الحنجورية والخطابات التعبوية، التي تهدف لحشده لتكريس السراب وتقديس الأوهام. نحن شعب يتآمر على نفسه وهو يترك التعليم ينهار ويسوء ويتدنى ليصادر المستقبل ويخرج أجيالا تكمل مسيرة الإخفاق والتأخر عن الحضارة الإنسانية. نحن شعب يتآمر على نفسه وبيننا عدد غير قليل يرفض سماع صوت مختلف، ويصر على قمعه وإرهابه ويعتقد أن الوطنية هي صعود دولة الصوت الواحد وخلق جمهورية الصمت، التي لا يجرؤ فيها الناس على البوح والشكوى فضلا عن النقد والاعتراض. 

أي كارثة ننتظر حتى نستفيق ؟ ماذا تحقق من الأوهام الكبرى التي روجتها أبواق السلطة ومواليها ؟ ربما يوجد من يتآمرون علينا، ولكن ما تأثيرهم مقابل تلك المؤامرة الكبرى التي نتآمرها على أنفسنا، ونحن نرضى بهذا التغييب ونصدق الدجل ونتعاطى الأوهام ونؤمل في السراب؟ 

من يحب هذا الوطن سيستفيق وينفض عن نفسه كل هذا الغبار الذى أعمى عينه عن رؤية السواد الذي يحيط بنا، لم تعد المشكلة في انحيازات سياسية، ولكنها انحيازات للعقل والموضوعية وقبلها الضمير ، فليختر كل إنسان مصير أبنائه ومستقبلهم، لم يعد هناك ما يخفى على صاحب عقل وضمير، مستقبل الوطن في يد أبنائه ، فلتستفق العقول ولتستيقظ الضمائر وليختر كلُ منا مكانه الذي يرضيه.