كتاب عربي 21

مصر بين جنازتين

1300x600
هكذا كان المشهد الذي صنعته هذه الجموع الغاضبة التي سارت في جنازتين في محافظة واحدة من محافظات مصر (القليوبية) حيث ارتفع نعشان على الأكتاف، النعش الأول لمجند شهيد لقي ربه في سيناء وهو يصد هجمات دواعش سيناء الذين يصفون المصريين وجيشهم بالمرتدين، والنعش الثاني للبرلماني السابق ناصر الحافي المحامي والقيادي الإخواني الذى تمت تصفيته بالرصاص في شقة بمدينة 6 أكتوبر غرب القاهرة مع عدد من قيادات الإخوان الذين قالت الشرطة المصرية إنهم قاوموا عملية القبض عليهم بإطلاق النار على القوات فقامت القوات المقتحمة بتصفيتهم جميعا. 

في جنازة المجند الشهيد كانت الجموع تبكي وتهتف غاضبة (لا إله إلا الله.. الإخوان أعداء الله) بينما كانت الجموع الأخرى في الجنازة الأخرى تهتف ضد السلطة وتصفها بالقاتلة المجرمة وتدعو على الظالمين ممن سفكوا الدماء، كانت هذه دموعا حقيقية وهذه أيضا دموع حقيقية ولكنها دموع شعب واحد مزقته صراعات السياسة والحرب على السلطة وأصابته لعنة الدم. 

الأربعاء الدامي الذي شهدته مصر لم يكن كافيا لتهدأ أبواق التحريض والكراهية بل زادها سُعارا وبدا أنها لم ترتو بعد بأنهار الدماء التي سالت على مدار عامين بلا انقطاع، صخب إعلامي مخبول وجلبة وبذاءة وركاكة هدفها إسكات كل صوت عاقل يتساءل: كيف وصلنا لهذه المأساة ومن المسؤول عن البؤس والسواد الذى انجرف إليه الوطن؟ من الذي يزرع بذور الحرب الأهلية ويسقيها بالكراهية وبقطرات دماء الأبرياء؟.

يسوقون خطابا باليا ومتعفنا يطلب من الجميع التطبيل بلا عقل وكأن كل النكسات التي صنعها الصمت أو التطبيل ليست كافية لنستمر في مسار كارثي يأخذنا للهاوية، يزايدون على حب الناس لجيشهم ويتهمون من لا يطبل معهم بأنه خائن ومعاد لبلده وجيشه رغم  أن دموع المحبين لوطنهم سالت حزنا وكمدا على هذه الأرواح التي ارتقت للسماء دفاعا عن الأرض والعرض في سيناء، بينما تاجر هؤلاء بتلك الدماء وقرروا أن تكون مبررا لقمع أشد وبطش متصاعد ومآس دموية جديدة.

كل عاقل يخشى على مصر قام بإدانة اغتيال النائب العام لأنه يعلم أن العنف لا يصنع مستقبلا ولا يحمي مجتمعا بل يلهب غرائز الانتقام ويوسع دائرة الدم الذي تتناثر قطراته على كل الوجوه، هناك شريحة كبرى من المصريين ترفض ممارسات الإخوان وفي نفس الوقت ترفض استراتيجية تعامل النظام معهم وترى أن السيناريو القائم شديد الخطورة لأنه تصعيد بلا سقف وينذر بفقدان السيطرة سواء سيطرة السلطة أو سيطرة الإخوان على قواعدهم، يهدي الإخوان للنظام منحا مجانية لذبحهم وبتأييد شعبي، ويهدي النظام للإخوان أعظم فرص صناعة المظلومية والتحول للعنف بإغلاق أبواب الحوار واعتماد العصا الغليظة واستمرار الاعتقالات والتهديد بالإعدامات في المحاكم ثم تطبيق سيناريوهات التصفية خارج المحاكم ليساهم في عمل تحول جذري بنيوي في تنظيم كبير ومتمدد ليصل أفراده لحمل السلاح وتبني العنف كخيار وحيد في مواجهة النظام.
 
لا يمكن أن تلتمس العذر للنظام فيما يفعل ولا يمكن أن تلتمس العذر للإخوان وبينهم من يشرعن تدمير محطات وأبراج الكهرباء ويراها درجة من تجاوز السلمية المقبولة ويشمت في ضحايا الجيش في مواجهته مع دواعش سيناء، كذلك دعشنة الإخوان من قبل النظام وأبواقه هي أعظم هدية لدواعش سيناء الذين يأملون في انضمام عشرات الآلاف من تنظيم الإخوان إليهم ليتحولوا إلى تكفيريين عتاة وقتلة يجزون الرؤوس، فهل سيفرح النظام بذلك وهل يحمي بهذه الطريقة مصر من الإرهاب؟

الخطابات الإعلامية والسياسية التي تبنتها السلطة عقب اغتيال النائب العام كارثية وصارت تشبه (خناقات الشوارع) حيث يتدافع الناس لطلب الثأر والسقوط في خطيئة العقاب الجماعي قبل تحديد المجرم، كذلك ممارسات المكايدة الرخيصة التي صارت سلوكا عاما في المشهد العام بمصر كلها تخبرنا أننا باحتياج لأصوات حكمة توقف هذا النزق المجنون الذي يقودنا للجحيم.

 لا يمكن أن نحارب الإرهاب في مكان بينما نحن نصنعه في مكان آخر، لا يمكن أن تستمر الخطابات الحنجورية بينما أجزاء من الوطن على وشك السقوط في يد عصابات تكفيرية صارت تتجرأ لدرجة التفكير في الخروج من الكهوف والاستيلاء على مدن ثم الانطلاق منها، لا يمكن أن نرضى بخطاب الشماتة والتشفي في شهداء الجيش المصري، لا يمكن أن نصمت ونار الثأر تتزايد مع كل قطرة دم تسيل، لن يكون هناك وطن بعد ذلك لنعيش فيه أو نختلف عليه، سيصبح الوطن مجموعة من الخرائب والحرائق التي لا تنطفئ.

 فليخرج الجميع عن صمتهم وليكسروا الخوف الذي يخرس ألسنتهم وليقولوا كلمة حق لوجه الله ولصالح الوطن، كل يوم يمر ونحن بهذا الحال يبعدنا أكثر عن الحل ويقلل فرص النجاة، قبل أن يضيع المستقبل قولوا كلمة حق تنقذون بها الوطن.