يعرف ابن منظور في لسان العرب
الوطن: المنزل تقيم فيه، وهو موطن الإنسان، ومحله، واصطلاحا في معجم المصطلحات السياسية الدولية؛ الوطن هو البلد الذي تسكنه أمة يشعر المرء بارتباطه بها، وانتهائه إليها.
فالوطن حالة معنوية من الارتباط النفسي بالمكان نتيجة مقدمات من الإحساس بالوجود والإحساس بالقدرة علي الحياة والإحساس بالإنسانية داخل هذا "الوطن"؛ والإحساس بالوطن ذهنيا ونفسيا سابق على تحديده إجرائيا، فلا تصبح مواطنا عندما يكتب في بطاقة التعريف أو جواز السفر أنك تمتلك وطنا، ولكن تصبح مواطنا عندما تشعر أنك مواطن.
فالمفهوم دائما سابق على الإجراء المعبر عنه.
ونرى على الساحة عدة قضايا يطغى فيها الإجراء على المفهوم بداية من حكاية
محمد سلطان إلى حكاية مؤسسات الدولة؛ فمحمد سلطان وغيره ربما تخلوا عن إجراء الجنسية، ولكن لن يستطيع أحد أن ينتزع منهم إحساسهم بالوطن والحنين الدائم إلي شيء ما ربما لا تستطيع الحديث عنه، ولكنه دائما موجود في مكان ما بداخلك؛ هذا بالتأكيد إن أرادوا هم ذلك وما زالوا يشعرون بمفهوم الوطن داخلهم، وهو بالتأكيد ليس ضروريا.
فالوطن ليس قيمة مكانية أو حتى نفسية مطلقة، بل هو جزء من إطار أكبر فهو جزء من حالة اجتماعية، فهو مرتبط بمجموعة من القيم والمفاهيم التي تكسر من إحساس الاغتراب الذي يلازم الكثير حتى داخل حدود أوطانهم الجغرافية، وعند اقتران الأحساس بالاغتراب بوجودك في مكان، فالطبيعي أن يسقط الإحساس النفسي بالوطن حتى وإن احتفظت بجواز سفرك وهويتك المكتوبة.
إن اختزال المفاهيم في مجموعة من الإجراءات التي تمتلكها السلطة هو أحد أهم أهداف الاستبداد بشكل عام حتى تستطيع رأس السلطة والطبقة الحاكمة صناعة المفاهيم والتحكم بها.
فأنت مواطن عندما تقرر السلطة ذلك بمحموعة من الوثائق وأنت لست مواطنا عندما تريد هي ذلك، فتقتل بداخلك كل إحساس مرتبط بالوطن وتبقى تلك الوثيقة هي المعبر الوحيد عن انتمائك.
وكذلك مؤسسات الدولة، فمع استبداد الطبقة الحاكمة وانفصال المؤسسات عن المهام التي أنشئت من أجلها تحولت المؤسسات إلى الدولة ثم تحولت إلى الوطن ثم اختزلت المؤسسات في أفراد وتحول الأفراد إلى الدولة، ثم تحولوا إلى الوطن ذاته، ونسيت تماما المفاهيم وتحولت إلى مجرد إجراءات، فالوطن ورقة هوية، والمؤسسات بل الأفراد هم الوطن والدولة.
محمد سلطان حالة
مصرية متكررة لم تكن الأولى، ولن تكون الاخيرة، فهناك المئات من المغتربين داخل هذا "الوطن" الإجرائي يعبرون الحدود شمالا عبر البحر للبحث عن وطن آخر يشعرون فيه أنهم مواطنون حقا، يتركون هوياتهم وحياتهم الماضية التي لم يجدوا بها من "يحنو عليهم" ويعبرون الموت بحثا عن الحياة.
هناك مئات الآلاف من المغتربين في هذا الوطن الإجرائي، يهيمون على وجوههم كل صباح بحثا عن جنيهات لينفق بها كل منهم على أولاده، وهم في رحلة بحثهم عن تلك الجنيهات يبحثون عن الوطن المفقود في عقولهم.
هناك أيضا في هذا "الوطن" الإجرائي الملايين الذين يصارعون الموت من مرضى الفشل الكلوي والسرطان والالتهاب الكبدي، وهم يبحثون عن وطن آخر في رحلة البحث عن نفقات العلاج ربما بعد الموت يجدوه.
ملايين "المواطنين" من سكان العشوائيات شديدة الفقر يسكنهم كل كوارث الفقر والجهل، يبحثون وسط ركام الفساد، وأطنان القمامة، عن أي حلم بوطن حقيقي يعيشون فيه.
ولكن ربما علينا التوقف قليلا فقد نجحت ماكينات صناعة الوعي في ترسيخ الوطن الإجرائي في عقول الكثير، فمجرد ذكر الوطن وسط كل المآسي التي يعيش فيها لا يذكر إلا بطاقة الهوية والأفراد الآلهه، وبعد ذلك يعود لبؤسه وشقائه في عالمه الخاص البائس.
لقد استطاعوا كسر المفهوم في العقول وترسيخ الإجراء ليس فقط في قضية بطاقة الهوية، ولكن في كل القضايا ليصنعوا عالما متوافقا مع الاستبداد ومغذيا له.
إن الهبوط بالمفاهيم إلى مستوى الإجراءات يتبعه انهيار منظومة القيم، فعندما يصبح الوطن بطاقة هوية تصبح الأخلاق إجراءات حركية، والدين مراسم فلكلورية، ويتحول المنزل إلى نُزل عابر والزواج إلى علاقة والصلاة إلى آداء حركي.
على المهتمين بالوطن وبالقيم فك الارتباط بين العقل الجمعي للمجتمع والإجراء وإعادة الأمور إلى نصابها واستعادة العلاقة بين العقل والمفهوم.
علينا أن نخبر العالم وأنفسنا أن تمزيق جواز السفر لا ينزع عنك وطنك، ولكن ما ينزعه عنك هو قتلك في الشوارع، وانتهاك عرضك وظلمك في غياهب السجون، وقتلك بالفقر والمرض. علينا أن نخبر أنفسنا أولا قبل الآخرين أن الاستبداد هو قاتل الوطن وسافك دمه، وليست تلك الوثيقة البائسه.
علينا الإعلان بكل فخر كما قال الطيب رجب أردوغان، أن وطننا هو كل مكان يرفع فيه الأذان.