كان يمكن أن يمرّ كأي حدث عادي أو محطة غير مفصلية لولا تلك الأحداث الكبرى التي تخللته وأعقبته تدريجياً وصولاً إلى حرب العصف المأكول وما رشح عنها، وكان يمكن أن يُعدّ
الإضراب الذي أخفق في تحقيق غاياته لولا ما تمخض عن تداعياته على المدى البعيد، وصولاً إلى صندوق الأسرار الأسود الذي يحتفظ بمفتاح الحرية لآلاف
الأسرى في
سجون الاحتلال.
إنه إضراب الأسرى الإداريين في سجون الاحتلال عام 2014، الذي نعيش اليوم ذكرى أيامه، وحيث يذكّرنا موقع التواصل "فيسبوك" بتفاصيل أيام الإضراب وهو يعرض يوميات الأعوام الماضية كل صباح لمستخدميه.
كانت ثلة من رموز المقاومة والصمود من أسرى الإداري داخل سجون الاحتلال قد عقدت العزم على خوضه، على أمل النجاح في كسر سياسة الاعتقال الإداري الجائر الذي يأكل أعماراً دون حساب، ويفتك ببراعم المواجهة عبر استنزافه غير المنقطع لرموز التغيير والمقاومة داخل المجتمع الفلسطيني.
وحدث أن كان توقيت الإضراب في ظرف ميداني صعب وغير معين على نجاحه، لا سيما في الضفة الغربية وهي الساحة التي ينتمي لها المضربون، فقد كان الواقع الميداني مجهداً وعقيماً، ولم تكن في البداية ثمة مؤشرات على إمكانية حدوث نهضة ميدانية متضامنة قادرة على الضغط على المحتل وإرغامه على التجاوب مع مطالب المضربين.
ومع ذلك، التقطت حركة حماس في الضفة وقتها رسالة الواجب، وحملت على عاتقها مسؤولية تحريك الميدان نصرةً للأسرى، وبعد أمد من فعالياتها الميدانية المرافقة إضراب الأسرى تململت السلطة وأجهزتها الأمنية حين أزعجتها كثافة الحضور الميداني في نشاط حماس المؤازر للإضراب، فكان أن اتخذت السلطة قرارها بقمع حركة التضامن الميدانية خشيةً من تطور الأمور باتجاهات مزعجة بالنسبة لها ولكيان الاحتلال بطبيعة الحال.
لكن المفاجأة غير المتوقعة كانت عملية أسر المستوطنين في الخليل، التي أذهلت السلطة بقدر ما أرغمتها على إيقاف حملتها الأمنية مؤقتاً، نتيجة الانتهاكات الصهيونية الواسعة التي نُفذت بحق حركة حماس وعناصرها ومظاهر نشاطها في الضفة الغربية.
وحين اضطر الأسرى المضربون لإيقاف إضرابهم نتيجة للتطورات الخارجية غير المتوقعة وما رافقها من قمع وتضييق داخل السجون، كانت جبهة الحرب في غزة تندفع باتجاه الانفجار، فتغيّر وجه المرحلة برمّته، ودخلت الحرب أطوارها الأكثر شدة وحسماً ومفاجآت.
سقطت أهداف الحرب إسرائيليا حين عجزت عن تحقيق غاياتها، ورغم أن أهداف الحرب فلسطينياً لم تنجح في كسر الحصار، إلا أنها جلبت لساكني الزنازين الأمل بكسر حصارهم هم، فكانت في ملخّصها العام الحرب الجالبة لأمل حرية الأسرى، بعد عجز الإضراب عن الطعام عن تحقيقه، وعجز الحراك الميداني غير المؤلم للمحتل عن إرغامه على التنازل.
ولذلك، يمكننا اليوم أن نقيّم إضراب أسرى الإداري بآثاره الخارجية، وليس بإنجازاته الداخلية، فقد كان الشرارة التي حررت الأفق من ظلامه وجموده، فكان له ما بعده، مثلما أن حرب العصف المأكول سيكون لها ما بعدها، ولن تذهب الدماء والأرواح سدى، ومثلها صنيع المجاهدين واستثنائية بسالتهم، فما تزرعه البنادق لا يبور، ولن يُنسى، رغم قتامة الواقع وانغلاق سبل الخلاص في المدى المنظور.