المشهد الجديد في
تونس دشنه خروج مرشح الثورة من قصر قرطاج ودخول مرشح الثورة المضادة ورجل الدولة العميقة إلى آخر القلاع التي صمدت في وجه آلة الانقلاب الجهنمية. المشهد انقلابي كغيره من مشاهد الموت العربية في كل الديار التي رفعت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" لكن ها هو النظام يعود ببركات الإسلاميين وغبائهم وبتحالف اليسار الانتهازي وزغاريد المزيفين من دعاة القومية العربية وصمت مطبق لنخب العار التونسية التي تطرب اليوم لعودة الجلاد ولطرد الرعاع من حياض السلاطين. المشهد الاستبدادي الجديد دُشن بإيقاف الناشطين المدنيين واعتقالهم في البوابات والمطارات كابن شهيد المؤسسة العسكرية - العقيد العياري- في تواطؤ تام من المدافعين عن حق التعبير وحرية الرأي. مشهد آخر من مشاهد الدولة البوليسية الجديدة وهو منع لجنة الحقيقة والكرامة من النفاذ للأرشيف الرئاسي من طرف دولة البوليس الجديدة التي لن تتأخر في الكشف عن أنيابها من جديد.
أبواق إعلام العار المحلي لم تخف فرحها بمغادرة ممثل الفقراء والمسحوقين لقصر السلطان الذي بقي منذ عصر البايات الحسينيين رمزا مطلقا للسلطة وللنفوذ وللسطو المطلق والفساد الذي لا نهاية له قبل أن تنجح ثورة الشباب في تنصيب ممثلها هناك طيلة ثلاث سنوات هي كل ما تبقى من النفس الثوري. نفس الأبواق بدأت تغازل العجوز التسعيني وخاصة الحاشية الفاسدة من المتسلقين المحيطين به وهم أصحاب القرار الحقيقي القادم من غرفة العمليات الخليجية التي تدير الأمور في تونس وفي بقية دول الربيع العربي من أجل وأد أحلام الشعوب في الحرية والكرامة. أما أبواق إعلام الدعارة العربي الفاخر فقد بدأت في التطبيل لنظام العصابات الجديد في تونس باعتباره الوريث الشرعي للديمقراطية الناشئة في بلاد العرب. أقلام عربية كثيرة بينها أقلام "كبيرة" في المغرب والمشرق أصبحت ترى في العجوز التسعيني تتويجا لثورة الشباب وأن الشعب التونسي قد أحسن الاختيار بترشيح الرجل العجوز ليتحمل عبء دولة خارجة للتو من ثورة شباب دامية.
الأقلام المأجورة من النخب المزيفة ومن إعلامي الصحف الصفراء والبوليس الإعلامي ليست مزعجة في ولائها للاستبداد ولولي نعمتها بل هي تقوم بوظيفتها على أحسن وجه في تلميع الوجه القبيح لأنظمة القمع. الكارثة تتمثل أساسا في الأقلام المحسوبة على الشق المناضل والتي صدعت رؤوسنا طيلة عقود بالنضال والتقدمية العربية وصراع الطبقات والرعب الثوري لتجد خطابها اليوم متماهيا إلى حد التطابق مع خطاب الاستبداد نفسه.
من كان يصدق أن تتصدى هذه الأقلام والأبواق لرغبة الشعوب في التحرر فتسمي ثورة 17 فبراير المجيدة "ثورة النيتو"؟ ومن كان يتصور أن تنعت صحف العار التونسية من صوت ضد العجوز التسعيني بأنهم إرهابيون تكفيريون؟ من يصدق أن تخرس كل الألسنة في مصر اليوم مثلا عن الانقلاب وعن مجازر العسكر في كامل المنطقة العربية من أجل تأبيد الاستبداد؟ أين ذهب تجار النضال ونخاسو الديمقراطية وحقوق الإنسان في بلادنا؟ وهل يجب ذبح الشعب السوري وسحقه بالبراميل الطائفية من أجل عيون نظام الموت في بلاد الشام؟
البعض الآخر يرى في المشهد التونسي اليوم أفضل النماذج باعتبار الدمار الواسع الذي أصاب المنطقة العربية جراء المطالبة بالحرية والكرامة. وهو رأي مقبول إلى حد ما باعتبار قدرة الدولة العميقة في تونس وأذرعها الإقليمية في الجوار المباشر وفي الخليج الأمريكي على حرق البلاد عبر بوابة الإرهاب الصناعي والإرهاب الاقتصادي والإرهاب الإعلامي. أي أن المشهد التونسي اليوم هو مشهد الممكن دوليا بحكم طبيعة العلاقات الدولية اليوم وطبيعة القوى المسيطرة على الساحة الدولية وقدرتها على إفشال الدول مهما كانت قوتها، فما بالك لو كانت هذه الدولة صغيرة وذات اقتصاد ضعيف مثلما هو الأمر في تونس؟
المشهد في تونس اليوم هو مشهد انقلابي بامتياز على ثورة 17 ديسمبر الخالدة مهما تغيرت المساحيق والدهون؛ فالعجوز التسعيني هو الوريث الشرعي لبن علي وبن على هو امتداد طبيعي لبورقيبة مع تلطيف في النكهة وتغيير في المذاق. أما خطاب القيادات المحسوبة على التيار الإسلامي من حركة النهضة فهو خطاب لم يتغير منذ أعلن المرشد الأعلى للحركة سنة 1990 عن ثقته في الله أولا وفي بن على ثانيا ليعلن اليوم ثقته في الثورة أولا وفي العجوز التسعيني ثانيا. بل الأدهى والأمر أن تتحالف قيادات التيار الإسلامي مع قوى محسوبة على الاستعمار العالمي المعادية بطبيعتها لكل اتجاهات الإسلام السياسي وهي في نظرنا أكبر أخطاء التيار الإسلامي التي سيدفع ثمنها أبناؤه عاجلا أم آجلا.
حرب القواعد المفتوحة اليوم بين قيادات التيار الإسلامي - من المهاجرين - وبين ممثلي التيار الثوري الوسطي هي أبرز عناوين التحلل الكبير الذي بدأ يضرب بقوة بنية الحركة الإسلامية التي تنكر قياديوها لشعارات
الثورة التونسية ولدماء الشهداء تعللا بالواقعية السياسية وبإكراهات السلطة. اليوم يضع الإسلاميون يدهم في يد جلاد الشعب – على استحياء- من أجل البقاء في السلطة لا غير لأن القيادة قررت التضحية بالثورة بدل التضحية بالحركة فالجماعة في نظر " الشيوخ" أهم من الثورة بل أهم من الشعب نفسه. هذا الشعب لم ينزل إلى الشوارع في التسعينيات زمن صراع بن على مع الإسلاميين بل ترك الجماعة تواجه الجلاد وحدها. هذا الشعب لا يستحق التضحية اليوم بل إن "تكتيك الشيخ" رأى أن التحالف مع "عصابة السراق" أسلم من التحالف مع شعارات الثورة لأنه الموقف الأسلم للحركة لتتجنب مصيرا شبيها بالمصير المصري.
هذا المشهد الجديد المتشكل للتو من غبار المرحلة الانقلابية التي كللت بفوز الدولة العميقة لن يكون نهائيا على المدى القريب والمتوسط، بل إن الخارطة الجديدة للمشهد السياسي التونسي ستحمل مفاجآت كثيرة عبر انحسار منسوب الإسلام السياسي وانكشاف الوضع الجديد على توازنات ومعطيات ما كانت تخطر ببال أكثر الملاحظين تشاؤما.