يتجدد
الجدل بين الفينة والأخرى حول حكم
النقاب في الإسلام (غطاء وجه المرأة)، بين اتجاه فقهي يرى وجوبه، وآخر يرى استحبابه، وإن كان ثمة اتجاه ثالث بين المعاصرين يتعامل مع النقاب باعتباره عادة صنعها المجتمع، تزعمه شيوخ أزهريون، أودعوا رأيهم ذاك في كتاب "النقاب عادة وليس عبادة" الذي أصدرته وزارة الأوقاف المصرية سنة 2008، وتبناه
الأزهر ودعا إلى توزيعه.
بحسب الأبحاث المنشورة في الكتاب المذكور، فإن اعتبار النقاب عادة إنما تأسس على كونه "لم يرد في الكتاب ولا في السنة نصوص تأمر المرأة بإخفاء وجهها"، وأن جماهير الفقهاء يرون أن وجه المرأة ليس بعورة، وأن النقاب عادة كانت موجودة قبل الإسلام، والالتزام بها بحسب ما يكون شائعا في المجتمع باعتبارها عادة تعارف الناس عليها والتزموا بها كعرف اجتماعي سائد بينهم.
لكن ثمة اتجاه فقهي واسع عارض مشايخ الأزهر الذين تزعموا الدعوة إلى اعتبار "النقاب عادة وليس عبادة"، مقررين في جملة من البحوث والفتاوى، أن النقاب حكم شرعي يتردد بين الوجوب والندب، ومعتبرين في الوقت نفسه مشايخ الأزهر الذين قالوا بتلك المقالة، قد تجاهلوا الخلاف المعروف بين المفسرين حول مسألة غطاء وجه المرأة عند تفسيرهم لآيات (الحجاب) الثلاث في سورتي النور والأحزاب.
الآيات الثلاثة المشار إليها هي قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}[النور:31]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}[الأحزاب:33]. وقوله:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}[الأحزاب:53].
النقاب حكم شرعي وليس عادة
يرى العلماء والفقهاء والدعاة الذين عارضوا توجه مشايخ الأزهر في كتابهم "النقاب عادة وليس عبادة" أن أئمة التفسير والفقه والحديث السابقين، اختلفوا في حكم غطاء وجه المرأة، ما يعني أن النقاب (غطاء الوجه) حكم شرعي دائر بين الوجوب والندب، ولم يقل أحد من المتقدمين أنه عادة، بحسب الدكتور وليد شاويش، عضو هيئة التدريس في جامعة العلوم الإسلامية العالمية الأردنية.
وفي بيانه لحكم النقاب عند المذاهب الأربعة، أوضح الدكتور شاويش لـ"عربي21" أن السادة الشافعية يقولون بوجوب غطاء وجه المرأة، ولهم أدلتهم على ذلك، وهو مذهب معتبر، بينما المذاهب الثلاثة الأخرى (الأحناف والمالكية والحنابلة) ترى مشروعية كشف وجه المرأة، مؤكدا عدم وجود مذهب فقهي واحد اعتبر غطاء الوجه عادة وليس عبادة.
وبخصوص ما قاله مشايخ أزهريون في اعتبارهم النقاب عادة، قال شاويش مع احترامنا وتقديرنا لأولئك المشايخ إلا أن ثمة قواعد ومعايير لا ينبغي لا لشيوخ الأزهر ولا لغيرهم من العلماء تجاوزها، فمرجعية أهل السنة الفقهية هي المذاهب الأربعة، ولم يقل أي مذهب من هذه المذاهب بما قاله المشايخ الأزهريون.
وردا على من يقول بأن ثمة اختلافات بين أقوال المتقدمين والمتأخرين من أتباع المذاهب الأربعة، أكد شاويش عدم وجود خلافات بين المتقدمين والمتأخرين منهم في مسألة النقاب، وأما ما يقال عن اختيار ابن تيمية لوجوب النقاب خلافا للحنابلة المتقدمين، فأوضح شاويش أن ابن تيمية فعل ذلك بصفته مجتهدا مستقلا وليس كفقيه حنبلي.
من جانبه قال الأكاديمي السوري المتخصص في العلوم الشرعية، الدكتور عداب الحمش "إن الآيات الكريمة الواردة في الحجاب، ليست نصا محكم الدلالة على ستر وجه المرأة مطلقا، وترد عليها إيرادات مقبولة دلاليا"، وأضاف لـ"عربي21"، "ولأن هناك عددا من الأحاديث الصحيحة الدالة على وجود نسوة سافرات عن وجوههن في عصر الرسالة، فيصعب حمل نتائج الاجتهاد في فهم النصوص على الواجب الذاتي، أو التوصلي".
ومع إقراره بوجود الاختلاف المعتبر في المسألة أبدى رأيه بما يراه راجحا بقوله: "والذي يترجح عندي منذ القدم؛ أنّ الحجاب من الأحكام التي تدور مع عللها، وتقدر الفتوى بها على حسب الزمان والمكان والبيئة والتربية، مبينا أن الله تعالى حينما يقول لنساء الرسول عليه الصلاة والسلام وزواره من الصحابة: (ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن) فلا يليق بمن يحترم عقله أن يقول: هذا خاص بأمّهات المؤمنين.
لأن حركة القلب -وفقا للحمش- إن كانت ممكنة من أمهات المؤمنين، وهن أمّهات فهي راجحة في غيرهن من باب الأولى، لافتا إلى أنه "مما لا اختلاف فيه بين علمائنا المتقدمين أن ستر الوجه كان هو السنة العملية للصحابيات رضي الله عنهن، كما لا خلاف بينهم أن ستر الوجه هو سنة مؤكدة، حتى عند من يقول بجواز كشف وجه المرأة.
النقاب بين الوجوب والاستحباب
حكم غطاء وجه المرأة يدور بين الوجوب والاستحباب، وبحسب الباحث الشرعي عاصم محمد شقرة، وهو ممن يقولون بالوجوب، فإن آية الأحزاب (فاسألوهن من وراء حجاب) نص في وجوب الحجاب بحق أمهات المؤمنين، وتدخل نساء المؤمنين فيه تبعا، وآية (يدنين عليهن من جلابيهن) تدل على الوجوب، لأن الأمر فيها جاء بإدناء الجلاليب المستوعبة لسائر البدن بما فيه الوجه، ولا يوجد دليل يخرج الوجه من عموم البدن.
الباحث الشرعي شقرة ألف كتابا أسماه "وقال الألباني في الحجاب قولا"، تصدى فيه لتفنيد الأدلة والحجج التي استند إليها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في انتصاره لعدم وجوب ستر وجه المرأة، وهي المسألة التي خالفه فيها غالب كبار علماء السعودية، الذين يرون وجوب ستر وجه المرأة، وقد تولى بعضهم الرد عليه، كان من أبرزهم الشيخ حمود التويجري في كتابه: "الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور".
ولفت شقرة في حديثه لـ"عربي21" إلى أن الأحاديث الصحيحة التي احتج بها الألباني ليست صريحة في الدلالة على ما ذهب إليه، كحديث الخثعمية المعروف وغيره، بحسب ما ذكره مفصلا في كتابه الذي ألفه لتفنيد أدلة الشيخ الألباني وحججه على جواز كشف وجه المرأة.
لكن في المقابل فإن القائلين بالاستحباب، يستندون إلى جملة من الأدلة جمعها باستيعاب وتفصيل وبيان عبد الحليم أبو شقة في كتابه "تحرير المرأة في عصر الرسالة"، والتي يأتي في مقدمتها عدم وجود دليل قرآني صريح في الدلالة على وجوب النقاب، وكذلك الحال بالنسبة للسنة النبوية، بحسب المتخصص في الفقه وأصوله، محمد أبو هاشم سوالمة.
وأكد الباحث سوالمة لـ"عربي21" أنه بعد دراسته لمسألة حكم وجه المرأة باستفاضة في كتب الأئمة المتقدمين، توصل إلى أنه ليس بعورة، ولا يجب ستره، ونبه إلى أنه لم يجد في كلام أئمة المذاهب المتقدمين من يقول بوجوب غطاء وجه المرأة، وأن هذا القول شاع في عصور تالية، كما أفتى الإمام الجويني في كتابه "الغياثي" بأن على الحاكم المسلم أمر المرأة بستر وجهها، ومن ثم شاع في الشافعية بعده.
ووفقا لسوالمة فإن بقية المذاهب الفقهية عند المتقدمين من أهلها، لم تقل بوجوب ستر وجه المرأة، حتى الحنابلة لم يعرف القول بالوجوب عندهم إلا بعد ابن تيمية، وابن قدامة في المغني لم يقل بذلك قط، ولفت سوالمة إلى أن اختيار الفقهاء المتأخرين للوجوب ليس بيانا لحكم المسألة في أصلها، وإنما سدا للذرائع بسبب شيوع الفساد في العصور المتأخرة.
يُذكر أن الداعية السعودي أحمد الغامدي، الذي يرى جواز كشف وجه المرأة (خلافا للمُفتى به والمطبق في السعودية) ظهر هو وزوجته كاشفة الوجه، على شاشة (mbc) قبل عدة أيام، ما أثار ضجة كبيرة في الأوساط الشرعية والشعبية في المملكة العربية السعودية، حيث اتهمه بعضهم برقة الدين، وانعدام المروءة، وأنه مطية للعلمانيين والليبراليين أدرك ذلك أم لم يدركه، لكن الغامدي بدوره رد على ذلك كله، بأنه لم يفعل منكرا، وأنه يطبق قناعاته الشرعية بأن وجه المرأة ليس عورة، ولا يوجد دليل صريح على وجوبه.