كتاب عربي 21

ألعاب الفيديو في العدوان على غزة

1300x600
"أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد، اضرب، .. واو". هذا ما يحدث داخل المدرعات المحصّنة المتراصّة على تخوم قطاع غزة. ومثل هذا يجري في غرف متوارية عن الأنظار، تدير أسراب الطائرات المسيّرة التي تطوف الأجواء بحثاً عن فرائسها. ومن فيض هذه المشاهد تلتقط دعاية الاحتلال ما تراه الأنسب لتلقيم مراسلي الإعلام به، فتجد المقاطع والصور المشوِّقة سبيلها سريعاً إلى الشاشات والمواقع والصحف.

إنها مشاهد الاستهداف من الجوّ التي تتصدّر ما يحلو لدعاية الاحتلال عرضه، تعزيزاً لروايتها عن وقائع الميدان. وقد دأبت الدعاية إياها على استعمال هذا الأسلوب، ثمّ توسّعت فيه حتى استخدمته في تصوير الضربة الأولى لعدوان 2012 على غزة، لدى اغتيال القيادي العسكري الفلسطيني الكبير أحمد الجعبري، ثم باشرت في عدوان 2014 استئنافه على النحو ذاته وزيادة.

ترمي تلك المشاهد الجوِّيّة التي يروِّجها جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى تكثيف تأثيرات متعدِّدة؛ منها إظهار الكفاءة في الأداء و"الاصطياد"، وكأنّ إلقاء آلاف الأطنان المتفجرة على الأحياء المكتظة بالسكان هو مجرد عملية جراحية موضعية. إنها محاولة للتأثير على معنويات الجانب الفلسطيني أيضاً، بمن في ذلك قادة المقاومة وصفوفها؛ بإشعار الجميع أنهم في مرمى الاستهداف، وأنّ "تساحل" يحتفظ باليد العليا.

قد يجوز الاستنتاج بأنّ هذه المشاهد الرمادية المشوّشة، تسعف جيش الاحتلال المأزوم في تورية قسط من افتقاره إلى مشاهد ملوّنة ونقيّة يمكن أن تصوِّر إنجازات عجز عن تحقيقها على الأرض.

أمّا الميزة التنافسية التي تتيحها هذه المشاهد، فتتأتى من وقوعها خارج نطاق التكافؤ مع المقاومة والتغطيات الإعلامية المستقلة. ذلك أنّ المقاومة الفلسطينية لا تحوز قدرات كهذه بالطبع، والأهمّ أنّ وسائل الإعلام ذاتها ستتلقّف هذه المقاطع غالباً دون القدرة على التحقّق من صدقيتها؛ إلاّ بجهود شاقة قد تخرج بنتائجها بعد نفاد الوقت وانقضاء الموسم.

لعلّ الأهمّ في هذا الصدد؛ أنّ مشاهد القصف والاغتيال الجوية ترتبط في الأذهان بألعاب الفيديو، بما ينطوي على استخفاف كامن بأرواح المُستهدَفين. إنها لقطات تضع المشاهدين في موقع "اللاعب" الذي يُطلِق النار "إلكترونيّاً" على هدفه المفضّل بلا وخز في الضمير، متلهفاً لإصابته وتفجيره وإطلاق صيحة الابتهاج المألوفة. هكذا يجري تحييد المشاعر التعاطف، لأنّ المشاهدين يجدون أنفسهم عملياً في خندق المهاجِمين لا في خندق الضحايا؛ الذين تنتفي القدرة على رؤية وجوههم التي تعدّ المفاتيح الأولى للتماثل المعنوي مع الأشخاص والإحساس بهم. 

إنّ غياب التفاصيل القائمة على الأرض عن هذه المشاهد التي يتمّ تلقيم وسائل الإعلام بها، وتصوير مرمى الاستهداف كأنّه مجرّد هدف ثابت أو متحرّك ينتظر دوره في التدمير السهل؛ ممّا يمعن في مسعى طمس الأبعاد الإنسانية في عمليات القصف، ويختزل العدوان إلى قائمة من الأهداف المتتابعة التي يتمّ إنجازها دون عناء، قبل أن يُقال إنّ المهمة قد أُنجزت. 

ليس مفاجئاً أن تتفاعل مشاهد كهذه مع السمات النفسية لجيل ألعاب الفيديو الحربية والقتالية. والأخطر أنّ ما تبدو للناظرين من نقاط الالتقاط المرتفعة، هي أهداف مادية، مثل مبانٍ ومنشآت وسيارات وحسب. لن يظهر أولئك البشر العالقين في إحداثيات الاستهداف، والذين يتمّ سحقهم قبل أن يرتدّ الطرف إلى المشاهِد، ولن تتجلّى وجوههم ولا دماؤهم ولا أشلاؤهم. 

هكذا تزاحم دعاية الاحتلال بموادها المصوّرة المنتقاة بعناية، فيض المشاهد والصور المأساوية الواردة من الميدان عن الفظائع التي يتمّ اقترافها بلا هوادة. 

إنها لعبة فيديو قاتلة، لا تعبأ بالبشر العالقين في الطرف المقابل، فقد تمّ نزع الصفة الإنسانية عنهم ابتداءً؛ وهي مقدمة مألوفة تمهيداً لإجراء السحق الذي يمرق من كل الالتزامات.

أمّا مشاهد الجنود المسرّبة من داخل الدبابات وهم يقصفون مبانٍ سكنية بمن فيها، فستظلّ وثيقة تكلِّل جيش الاحتلال بالعار، وقد تضمّها يوماً ما ملفات الإدانة في أنظمة الجزاء العالمية. إنهم يلهون بتسوية المساكن بالأرض، مستعينين بشاشات تضعهم في مواجهة أهدافهم، أما أزمتهم المتفاقمة عبر شهرين من سلوك الإبادة والتدمير؛ فتفضحها صيحاتهم إثر العدّ العكسي: " .. واو".