كتاب عربي 21

الإمبراطورية تنكفئ

1300x600

منذ أن قضمت روسيا شبه جزيرة القرم خلسة من أوكرانيا، صعد الاهتمام باستراتيجيات الصراع والحروب الباردة.

 لقد أدرك الأوروبيّون بين عشية وضحاها أنّ تخوم قارّتهم مكشوفة من الشرق في وجه تهديدات حسب بعضهم أنّها ولّت ولن تعود.

 وعادت المخاوف من تسلّل الحروب الطاحنة إلى الجغرافيا الأوروبية بعد أن استقرّ الهدوء في البلقان سنين عدداً.

 أمّا القطب الأمريكي الأوحد فلم يجد ردّاً مباشراً على التحدِّي التوسعي الروسي سوى عقوبات مخفّفة واجتماعات في الأروقة الدبلوماسية والتلويح بتحذيرات لفظية.

في غضون سنوات عشر لا أكثر اتضح التحوّل الذي طرأ على القوّة الأمريكية، أو على كيفيّة التعبير عن هذه القوّة بصفة أدقّ. فمن عهد بوش الابن إلى عهد أوباما تتجلّى العلامات الفارقة بين العهدين بما يتعدّى خيارات الرؤساء إلى التكيّف الذي لا مناص منه مع تحوّلات الأوضاع؛ تكيّفاً في الأداء والاستجابة وفي الخطاب والتعبيرات أيضاً.

والواقع أنّ الإمبراطوريّات تعيش هواجس التعبير عن القوّة التي يمكن قياس جدواها بميزان الردع. ولأنّ الثبات في القوّة يتناقض مع متطلّبات الردع التي تقتضي التنامي المطّرد في القدرات النوعيّة وفي رقعة الانتشار المباشر إن أمكن؛ فإنّ الاستحقاق الذي يترتّب على هذا كلّه هو تضخّم الكلفة العسكريّة والأمنيّة للمشروع الإمبراطوري الذي لا يسعه إلاّ أن يبقى مترامي الأطراف.

تتمدّد الإمبراطورية، ولا تملك إلاّ أن تتمدّد عبر القارّات، فتعتبر العالم بأسره مجالها الحيوي. ولكنّ اتساع الرقعة يضيف أعباء أمنيّة متزايدة ويجعل ثنايا الإمبراطورية وذيولها وامتداداتها عرضة للاستهداف والخدش، وهي تهديدات تتنامى في زمن الهجمات التي "تحمل بصمة القاعدة" وشبيهاتها. إنّه التحدِّي غير التقليدي الذي يتغذّى من تناقضات الواقع العالمي سياسة واقتصاداً واجتماعاً، وهو واقع شاركت الإمبراطورية ذاتها في تشكيله على هذا النحو فتتحمّل بالتالي قسطاً من المسؤولية عن تفاعلاته.

ترتفع كلفة المشروع الإمبراطوري إذن، فتأتي اللحظة التاريخية التي تجسِّد الانعطافة التي تُفضي إلى تحجيم الطموحات والرضوخ للتنازلات. وكما كانت انعطافة "بريطانيا العظمى" مع أفول الحرب العالمية الثانية وتصاعد المقاومة الشعبية في شبه القارّة الهندية، وكما جاءت انعطافة فرنسا الاستعمارية مع حركات التحرّر في المستعمرات لاسيما الجزائر، علاوة على إخفاق العدوان الثلاثي على مصر؛ فإنّ الولايات المتحدة تعرف شيئاً من ذلك بعد أن غاصت أقدام جنودها في رمال العراق وعلقت في الميدان الأفغاني دون إنجازات تُذكَر، وأقلقتها الأزمات الاقتصادية.

وقد سبقت الحالة السوفياتية بسياقاتها الخاصّة، فالإمبراطورية الحمراء التي لم تحتمل أعباء التورّط في جبال أفغانستان والانهماك في سباق التسلّح و"حرب النجوم" التي أطلقها ريغان؛ تهاوت أساساً تحت وطأة الكلفة الاجتماعية الباهظة لهذا المسار، فكان العجز في مؤشرات الرفاه متلازماً كالعادة مع تنامي الروح القوميّة في أحشاء التجربة الشيوعية، بينما كان حلف وارسو يتصدّع إيذاناً بتفكّكه المفاجئ.
 
وممّا عجّل بانهيار الإمبراطوربة الحمراء سريعاً كان طابعها التركيبي ونمطها المركزي الشمولي في نطاقها السوفياتي وفي رقعتها الأوروبية الشرقية. لكنّ النظم الغربية تظلّ أقدر، في بنيتها وفي قدراتها، على التنبُّؤ والمعالجة والاستدراك بما يمنع انهيارات أو يُبطئ وتيرتها أو حتى يُرجئ دفع الفاتورة المحتومة، ومثال ذلك حزمة إجراءات الإنقاذ الأوروبية لدول الاتحاد المتوسطية التي هدّدت بجرّ الوحدة النقدية "يورو" معها إلى القاع.

لا يغيب عن الأنظار أنّ الأزمة البنيوية في هيكل الإمبراطورية ذاتها تتدخّل أحياناً بما يؤدي إلى تعقيد الموقف. فكما عزّزت حروب الأزمان الغابرة من نفوذ طبقات المحاربين والفرسان والقطاعات المالية والاقتصادية التي تغذِّي المعركة؛ فإنّ مراكز القوى المستفيدة من صناعة السلاح وتوريده معنيّة بالتعاقدات الكبرى لصالح "الحلفاء"، أو الأتباع بالأحرى، وهي منهمكة في هواية إثارة الهلع من تهديدات محتملة أو مُفتعلة. ومن تعبيرات الأزمة البنيوية أن تُهدي مراكز البحث وبيوت الفكر صانعي القرار توصياتٍ مضلِّلة تغوي باقتراف أخطاء تاريخية، مثل غزو العراق سنة 2003، مع تعطّل وظيفة الصحافة في إثارة الشكوك حول الوُجهة وتحوّل وسائل الإعلام إلى أبواق للدعاية الحربية.

أمّا الضعف الإمبراطوري فيبلغ مبلغه مع عجز الإمبراطورية عن حماية حلفائها. وما إن يقرأ الحلفاء الرسالة مبكِّراً أو متأخِّراً حتى تخامرهم الشكوك بجدوى الارتباط بالمركز الإمبراطوري وقد يشرعون بالبحث عن مظلّة حماية بديلة إن أُتيحت لهم. قد لا يتعدّى الأمر لدى بعض الأتباع رغبة المشاغبة العابرة لاجتذاب انتباه الحليف التاريخي الوثيق، على طريقة بعضهم خلال الحرب الباردة في معانقة الروس بينما كانت عيونهم منصرفة إلى الأمريكيين.

لقد طوّرت الولايات المتحدة في مرحلة التحوّل استراتيجيات بديلة معزّزة بما يلزم من تكتيكات الميدان. ففي الاستراتيجيات تبرز لغة الدبلوماسية والتعقّل وفقدان الشهية للتدخّلات العسكرية المباشرة. كما يتزايد اللجوء إلى تعزيز القدرات العسكرية المحلية لمن يدور في فلكها؛ إذ عليهم أن يقوموا بالمهمّة المباشرة بأنفسهم، وأن يحظوا بالتدريب والتسليح والدعم الاستخباري، ومنهم سيسقط القتلى بما يتيح شروطاً أيسر للأمريكيين.

 ففي رحلة الانكفاء تقتصد الإمبراطورية في الزجّ بأبنائها في ميادين الاشتباك، فتلجأ إلى تأهيل قوّات الأنظمة التابعة لها التي لا يبالي قادتها بالتضحية بطوابير متلاحقة من جنودهم في أتون المعارك الأهلية المرسومة في الخارج. كما ينتعش قطاع المرتزقة الذي يوظِّف المقامرين بأرواحهم لقاء حفنة من المال، وسيعمل هؤلاء مع الوقت تحت لافتات عصرية مثل "بلاك ووتر". وإذا كان الأتباع ميسوري الحال فإنّ إغراقهم بفائض مصانع السلاح سيدعم موارد الإمبراطورية المهدّدة بالانكماش. 

أمّا في التكتيك فتأتي ظاهرة الطائرات بدون طيّار، مثالاً شاخصاً لهذا المنحى، فهي تبقى خياراً مفضّلاً لأنها تُدار عن بُعد وتنتهك سيادة الدول "الحليفة" دون تكدير انفعالات شعوبها. يفتح "الحلفاء" الطرق أمامها كما يحدث منذ سنين في أجواء "الشرق الأوسط الكبير"؛ من باكستان إلى دول الساحل والصحراء. إنها تقصف دون توقيع رسمي، وهي أدوات مثالية للقتل الجماعي الهادئ دون تحمّل مسؤولية تُذكَر، مع تلافي احتمال وقوع ضحايا أو أسرى بمضادّات أرضية.

تفرض الانعطافة الاستراتيجية تنازلات، من قبيل الاستعداد لإعادة التموضع والانتشار بما يحافظ على الأولويات ويستجيب لأبرز التحدِّيات، ومن ذلك الالتفات الأمريكي إلى شرق آسيا. بيد أنّ الإمبراطورية لن تكفّ عن إدارة ملفّات كثيرة والعمل على مسارات متوازية وتلبية اهتمامات متشعبِّة؛ لكنّ قدرتها على الحسم أو التدخّل ستتضاءل. وما إن يقرأ المتنافسون الرسالة فإنهم لن يتردّدوا في استعمال مبدأ الإحلال والفراغ؛ أي تثبيت أقدامهم في مواقع متقدِّمة استغلالاً لتراجع الخصم، ولعلّ الدور الروسي الجديد في أوكرانيا والقرم مهيّأ للقراءة ضمن هذا المنطق.

وقد تبيّن للعين الفاحصة أنّ سورية بالذات تحوّلت منذ سنة 2011 إلى مسرح أوّلي لإعادة رسم أدوار السياسة الدولية واصطفافاتها. فالقضية السورية أبرزت حضوراً جديداً لروسيا والصين، ولعلّها التي شقّت طريق التفاهمات بين واشنطن وطهران بكلّ ما يحمله الفصل الجديد من تداعيات إلى مشهد السياسة الدولية التي تبدو متعدِّدة الأقطاب أكثر من أيِّ وقت مضى.

لعلّ العظة التي تنتصب عبر التاريخ الإنساني الممتدّ، أنّ أياً من الدول العظمى لم تنجح في بسط امبراطوريّتها على نحو مؤبّد. فالتمدّد الإمبراطوري يحمل في أحشائه بذور تقلّصه أو انكفائه. وفي منعطفات التحوّل والانكفاء تقف الأطراف على مفترق طرق بين الإحجام والإقدام، أو بين الحكمة والمجازفة. فعقلنة النظام الدولي لم تعد تحتمل مغامرات ومجازفات بل تفرض البحث عن مسارات آمنة وإعادة رسم الحسابات، وهي حالة قد يقتنصها المغامرون الجدد في الخريطة الاستراتيجية العالمية فيدفعون قوّاتهم خارج الحدود أو ينسجون تحالفات استراتيجية عبر العالم. وعندما تتضوّر السِّباع جوعاً قد تأوي إلى عرينها بهدوء مستذكرة أمجادها؛ أو قد تستأنف رحلة البحث القديمة عن الفرائس في البرّية.

*كاتب مقيم في فيينا