كتاب عربي 21

الحلولية والاحتكار في السلفية الجهادية: من القاعدة إلى "داعش"!

1300x600

جملة من الأسباب أنجزت لتنظيم القاعدة جمع شتات "الحركة الجهادية" التي لم تجتمع من قبله في إطار تنظيمي واحد، وحتى على مستوى الرؤية فإن الحالة الجهادية بقيت تتوزع على طيف من التنويعات يشمل تبيانات في الفكر والاستراتيجيا والاختيارات الفقهية المبنية على هذا الفكر، والموظفة في خدمة التكتيكات النابعة عن هذه الاستراتيجيا، خاصة وأن هذه الحركة كانت نثرًا واسعًا في الأصول الجغرافية والأهداف والمقاصد التي لم تصدر عن ظرف واحد أو إرادة تنظيمية مركزية، حتى تجلت تبايناتها في تمثلات حادة، كان منها مجموعة ظهرت في بيشاور حرّمت العمل مع طالبان، وقد بثت فكرتها في كتاب منسوب لمؤلف تستر باسم «عبد الله الموحد» وعنونته بـ "كشف شبهات المقاتلين تحت راية من أخل بأصل الدين" وهو الكتاب الذي رد عليه أبو قتادة الفلسطيني بكتاب آخر سماه: "جؤونة المطيبين"، وللمفارقة فإن أبا قتادة الذي يرد على غلو الموحد، هو الذي وفّر الفتوى الشرعية التي كانت تسوغ للجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر "جيا" جرائمها كما ذكر ذلك أبو مصعب السوري في كتابه "مختصر شهادتي على الجهاد في الجزائر"، وقد امتنع الزرقاوي أيضًا عن مبايعة بن لادن حينما كان في أفغانستان، ولم يبايع القاعدة في العراق إلا بعد تردد.

إلا أن فشل الحركات الجهادية في بلدانها، وانتهاء الجهاد الأفغاني باقتتال فصائل المجاهدين الأفغان، وفناء العديد من التنظيمات الجهادية، وحصول مراجعات جذرية لدى بعضها، مع ظهور القاعدة برؤية واضحة وتنظيم متكامل وعمليات ضخمة استقدمت الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، أدى إلى توحيد ما تبقى من تلك الفسيفساء الجهادية وما ظهر تاليًا كما في العراق والصومال في صورة واحدة هي القاعدة، مع استثناءات بقيت مستقلة عنها، ولذلك وبالرغم من وجود الخلاف التاريخي المتعدد الدوافع والمظاهر داخل التيار الجهادي، فإن إعادة نثر الحالة الجهادية، والتمرد على القاعدة بما مثلته من إنجاز بتوحيد تلك الحالة، كان علامة فارقة في تاريخ هذه الحالة، يعاني فيها أيمن الظواهري أمير القاعدة لطمة بطعم الصدمة، بينما تعصف الفتنة بعموم التيار الجهادي الذي يقتتل فعليًا اليوم على أرض سوريا، ويتمزق في أقاليمه المختلفة المواقف والولاءات ما بين القاعدة و"الدولة الإسلامية في العراق والشام"!  

هذا الإنجاز الذي مثلته القاعدة أقر به العدناني المتحدث باسم "داعش" في كلمته الأخيرة "عذرًا أميرَ القاعدة"، والتي لم يكن يعتذر فيها للظواهري، وإنما يؤكد تمرد "دولته" عليه، واتهامه له بالانحراف عن خط القاعدة، وتمزيق الصف الجهادي بقبوله بيعة الجولاني أمير جبهة النصرة، ويمتحن عقيدته بخصوص تكفير عوام الشيعة والجيوش العربية وبعض جماعات وأفراد المسلمين كالإخوان المسلمين والرئيس محمد مرسي، وينتقده على استخدام مصطلحات عصرية مثل "الشعب والجماهير"! ويطالبه بالاتفاق على خليفة للمسلمين كحل وحيد لحسم الخلاف بين الفصائل الجهادية المتنازعة، وكأن أمر المسلمين محصور بين الظواهري والبغدادي! 

بعيدًا عن كل تفاصيل الخلاف، فإن الوصول إلى مستوى "داعش" نتيجة طبيعية لصيرورة الفكر القاعدي، المنبثق عن تصور "سلفي" يمكن إجماله بأنه حلولي، أي يتصور حلول الوحي وتجسده في سلف الأمة (قرآن وسنة بفهم سلف الأمة)، بمعنى الهبوط بالوحي من تعاليه المتجاوز إلى حلوله في التاريخ، ثم تجسده فيمن يستعيده في هذا الزمن كما تجسد في التاريخ، وهم حصرًا أهل الثغور، بحسب الشق الجهادي من الحالة السلفية، ما يعني رد الحق إلى ما هو دونه، أو معرفته بالرجال والجماعات (أهل الثغور)، استدلالاً بأثر منسوب إلى ابن عيينة وابن المبارك وأحمد بن حنبل نصه: "إذا اختلف الناس في شيء فالأمر ما عليه أهل الثغور"، وهو إذن تصور احتكاري ينتهي باحتكار الدال المطلق على الوحي وهم أهل الثغور، وبهذا أخرج هذا التيار من مسمى الجهاد كل من خالفهم في تصورهم، فلم يعدّوا حماس الفلسطينية مثلاً حركة جهادية، فهي إذن لا تشاركهم تجسيد الوحي الذي تعين فيهم حصرًا!

هذا التصور الحلولي الاحتكاري، قضيته الأساسية داخلية، كما هو شأن السلفية عمومًا، حتى لو انشغل بقضية خارجية (قتال المحتلين أو وكلائهم المحليين)، وهو بهذه القضية ينزع نحو التعالي على بقية المسلمين بتصوره تجسد الوحي فيه، فيصير الاختلاف معه اختلافًا مع قطعي الوحي، وانتقاده سبًا للوحي، والافتراق عنه افتراقًا عن الوحي المتعين في ذاته، وبهذا تتسع دائرة التكفير فتشمل أعمالاً وأقوالاً غير مكفرة، ويبنى التكفير في بعضه على محض الظن والريبة أو لمجرد الاختلاف، ولأن هذه الجماعة قد تجسد فيها الوحي فإنها تصير مشرعًا تمنح نفسها ما لم يكن يجيزه الوحي أصلاً  كالتوسع في التكفير والقتل أو إلزام الناس بطاعتها، ومنح البيعة لأميرها، فتصير الجماعة، بل أميرها مناط الحق، وعدم الدخول في طاعته أو الخروج من طاعته أو انتقاده سببًا كافيًا للقتل، وبهذا يعيد هذا المستوى في التيار الجهادي تدوير (فقه طاعة ولي الأمر السلفي) ولكن لخدمته هو، بعدما خرج عليه واتهم أصحابه بالإرجاء!

هذا التصور الحلولي متعدد المستويات، يبدأ بعموم التيار ويتركز في بؤر تضيق، إلى الجماعة إلى رأسها، ما يفتح مجال الشقاق داخل التيار نفسه، حينما تتوفر أسباب الهوى والحظوظ الخاصة مع عوامل موضوعية ومؤثرات خارجية (اختراقات مثلاً)، وهذا الهوى يتوسل للتغطية عليه بالوحي، ويتخذ شكل الرقابة على صدق الذات في تمثيل الوحي، أي حراسة نقاء الأفكار وطهرها، للوصول إلى اتهام شركاء المنهج بالانحراف وافتقاد أهلية تمثيل الوحي لأنهم دنسوا نقاء الأفكار، وبالتالي المزاودة في التمسك بالأفكار الأصلية المعبرة عن الوحي (المزاودة في التكفير مثلاً).

إن التحولات الطبيعية لهذا الفكر كانت مرصودة داخل الحالة الجهادية عمومًا وداخل القاعدة، وهو ما دلت عليه وثائق «أبوت أباد» والتي أظهر بعضها رأيًا حازمًا كنقاش داخلي تجاه "الدولة الإسلامية في العراق"، كما في رسالة عزام الأمريكي إلى أسامة بن لادن والتي لا يبدو أنها كانت مؤثرة كما ينبغي، أو تلك التي قدمت وحدة التنظيم، وإنجازه في العراق، على دماء المسلمين، كما في رسالة بن لادن التي يطلب فيها من عطية الله الليبي معالجة شكوى جماعة أنصار الإسلام من تعديات "الدولة" بتطييب خواطرهم وإن بمجرد الكلام! ودعوتهم للوحدة مع هذه "الدولة"! أي أن مستوى حلول الحق في "الدولة" التابعة للتنظيم أقوى منه في أنصار الإسلام التي تنتمي للتيار نفسه ولكن لا تنتمي للتنظيم! بل أكثر من ذلك فإن القاعدة قدمت تنظيرًا شرعيًا وسياسيًا وفكريًا يبرر إقامة "الدولة الإسلامية في العراق" وعلى لسان الظواهري نفسه بما يناقض بعض ما يقوله الآن مما يرفض به تمددها إلى الشام، وقد انتهت سياسات القاعدة هذه إلى الوصول الطبيعي لمستوى "داعش" التي تتهم الآن الظواهري بالانحراف، ليتركز الصراع الدعائي بين الطرفين على محاولة إثبات الأصدق والأدق في حراسة الأفكار التأسيسية، وبالتالي الأكثر أهلية لتمثيل الوحي والدلالة على الحق!