أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، مؤخرا، تصريحا
للقناة التلفزيونية الإخبارية الفرنسية LCI، كان من المفترض "نظريا" أن يثير
الجدل في هذه القناة وفي
فرنسا، التي يرفع إعلامها وطبقتها السياسية شعار الدفاع
عن "اللائكية" (العلمانية الفرنسية)، التي تحولت إلى ما يشبه "دين
الدولة" بتفسيرات "أصولية متطرفة"، لا تدعو فقط إلى فصل الدين عن
الدولة (للمفارقة!) بل استبعاد مظاهر الدين (والمقصود أساسا الإسلام) أيضا عن
الفضاء العام بشكل تراجيكوميدي.
ولكن "اللائكية" المستغلة من هؤلاء "الأصوليين
المتطرفين اللائكيين" المنحازين بشكل مفضوح لإسرائيل المبررين لجرائمها
المتواصلة في غزة وفلسطين، لا يناقشون بمنظارها ما صرح به إيهود باراك وغيره من
اليهود، سواءً الصهاينة الأصوليين أوالعلمانيين المزعومين، الذين "لا يؤمنون
بوجود الله، لكن يؤمنون بأنه وعدهم بالأرض المقدسة في فلسطين"!
لقد تحولت "اللائكية" إلى سلاح يستهدف الإسلام والمسلمين
فقط وخطرهم المزعوم عليها مثلما يحدث مثلا وبشكل "هستيري" في الصحف
والمواقع والقنوات التلفزيونية العنصرية والإسلاموفوبية المملوكة لأحد أباطرة
الإعلام فانسون بالوري الذي هو للمفارقة "أصولي كاثوليكي". لكن وسائل
إعلامه لا تتوقف عن مهاجمة المسلمين وخطرهم على "اللائكية" المقدسة،
وتقوم للمفارقة، مثلما هو الشأن بشكل أوضح وأفظع في قناة "سي نيوز"، ببث
القداس المسيحي من الكنائس كل أحد على المباشر، وتروج لما تسميه "فرنسا" ذات
المرجعية الثقافية والحضارية "المسيحية ـ اليهودية".. في المقابل يوثق
المذابح التي قام بها
المسيحيون وخاصة الكاثوليك، مثل بالوري، في حق اليهود، الذين
يعتبرونهم قتلة المسيح..
فيما لا يعترف اليهود فقط بالمسيح، بل يقولون كلاما مسيئا
في حقه وحق مريم البتول، ويعتبرون "البصق على المسيحيين تقليدا قديما محمودا
يجب ممارسته"، كما برر وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، هذه
الممارسة التي يقوم بها اليهود المتطرفون في القدس المحتلة بشكل خاص ضد المسيحيين،
إلى جانب التضييقات والاستفزازات التي يتعرض لها هؤلاء مثل المسلمين ومقدساتهم
خاصة في المسجد الأقصى.. المسلمون الذين في المقابل يعتبرون المسيح نبياً ويعلون
شأنه هو وأمه مريم التي نزلت سورة كاملة باسمها في القرآن الكريم.
بينما من جهة أخرى فالمسيحيون الإنجيليون، الذين يوصفون بالمسيحيين
الصهاينة، وأكثرهم في أمريكا، حيث يبلغ عددهم نحو 80 مليونا، لا يرون في اليهود
إلا "مطية" فقط، إذ أنهم يدعمون إسرائيل ليس حباً في اليهود، الذين
يكرهونهم في الحقيقة، إنما بمعتقدات غريبة وتفسيرات عجيبة للإنجيل يعتقدون فيها
بأن تجمع اليهود في الأرض المقدسة في فلسطين عبر إنشاء دولة الكيان الصهيوني، هو
علامة من علامات عودة المسيح المخلص وحرب نهاية العالم، وأنه عندما يعود المسيح
فإنه سيخير اليهود بين التحول إلى المسيحية أو الذهاب إلى الجحيم، حيث سيتحولون
"إلى كباب"، كما قال حرفيا، المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه!
المفارقة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك تحدث في
مقابلته مع القناة الفرنسية LCI عن عودة المسيح المخلص هو الآخر، حيث
صرح أن "رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو يوجد تحت تأثير وزرائه
المسيحانيين (اليهود) العنصريين لحماية مكانته في السلطة، ولأنه لا يريد فقدان
السيطرة على البلد. وقد تحول إلى أشبه بعبد لدى هؤلاء الوزراء الاستعباديين، الذين
يفرضون خياراتهم عليه، مع أن الخيار الأفضل لإسرائيل هو العمل إلى جانب الحلفاء
الأمريكيين. ولكن على العكس من ذلك فهؤلاء الوزراء يريدون مزيدا من التصعيد نحو
حرب أوسع لتسريع مجيء المسيح المخلص".
وتجدر الإشارة إلى أن المشيح أو المِسّيّا بالعبرية، ومعناها المسيح،
في الإيمان اليهودي هو إنسان مثالي من نسل الملك داود، يبشر بنهاية العالم ويخلص
الشعب اليهودي.
واللافت أن باراك لا يتوقف عن انتقاد نتنياهو وأدائه قبل وبعد 7
أكتوبر 2023، واتهامه بتقديم حساباته الشخصية للبقاء في السلطة.
وأكد في تصريحات سابقة أنه لو كان نتنياهو في دولة بوضع طبيعي
لاستقال بعد هجوم حماس المفاجئ في 7 أكتوبر الماضي، والذي اعتبره فشلا أمنيا كبيرا
لإسرائيل. وصرح أنه "لا يمكن القضاء على حركة حماس بشكل كامل، فحماس هي
أيديولوجية، وهي موجودة في أحلام الناس وفي قلوبهم وفي عقولهم".
الخيار الأفضل لإسرائيل هو العمل إلى جانب الحلفاء الأمريكيين. ولكن على العكس من ذلك فهؤلاء الوزراء يريدون مزيدا من التصعيد نحو حرب أوسع لتسريع مجيء المسيح المخلص
لكن باراك لا يقل إجراما عن نتنياهو ومن معه. وفي هذا السياق، وحتى
قبل 7 أكتوبر، قام الكاتب والصحافي الإسرائيلي المعروف جدعون ليفي، الذي هو أشرف
في انتقاد إسرائيل، من الكثير من الصحافيين الغربيين وحتى العرب الدعائيين
المبررين لجرائم الدولة الصهيونية، بنشر مقال في يوليو 2023 بعنوان "مجرم
يتحدث عن الديمقراطية.. إلى إيهود باراك: ماذا لو ولدت فلسطينياً؟" في صحيفة
"هآرتس" الإسرائيلية رداً على مقال نشره باراك في الصحيفة نفسها، انتقد
فيها الأخير نتنياهو "معادي الديمقراطية" في خضم الاحتجاجات الصاخبة ضده.
وقد كتب جدعون ليفي ردا على باراك يقول: "كيف يمكن لسياسي وعسكري
إسرائيلي له سجل كهذا (رئيس أركان ورئيس حكومة ووزير دفاع سابق) أن يتحدث بهذا
القدر الكبير عن الديمقراطية.. والحقيقة الخالدة التي شارك في تشكيلها بدرجة لا
تقل، وربما أكثر، عن اليمين. سياسي إسرائيلي مثل باراك غير مخول بالتحدث عن
الديمقراطية ما دام يتحدث عن الديمقراطية لليهود فقط".
وذكر ليفي "أنه قبل 25 سنة بالضبط وقبل بضعة أشهر على انتخابه
لرئاسة الحكومة، سألته في مقابلة أجريتها معه: “لو ولدتَّ فلسطينياً، كيف ستكون
حياتك؟”، رد بجواب وحيد وحقيقي: “أتخيل بأنني لو كنت في الجيل المناسب في مرحلة
معينة، لانضممت إلى أحد التنظيمات الإرهابية (ويقصد هنا طبعا حركات المقاومة
الفلسطينية)".
وأضاف ليفي أنه "بعد عشر سنوات على ذلك، قاد باراك بصفته وزيرا
للدفاع آنذاك عملية “الرصاص المصبوب”، وهو الهجوم الأكثر بربرية لإسرائيل على قطاع
غزة والذي خلف 1385 قتيلاً فلسطينياً، أكثر من نصفهم مواطنون عاجزون، من بينهم 318
طفلاً و109 نساء و248 شرطي سير. هذا الهجوم البربري كان رقماً قياسياً آخر في
الحكم العسكري الاستبدادي لإسرائيل على الشعب الفلسطيني. باراك هو الذي أشرف على
العملية ولا يمكن نسيان ذلك".
وشدد الصحافي على أن باراك "وزير الدفاع السابق في حكومة
بنيامين نتنياهو، حينها، إضافة إلى أن يديه ملطخة بالدماء، فقد أفشل التوصل إلى
حل سياسي للصراع، حين عرض على الفلسطينيين أقل بكثير مما نصت عليه قرارات المؤسسات
الدولية".
*كاتب جزائري مقيم في لندن