العاصمة
السودانية بمدنها الثلاث
(الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان)، هي مركز العمليات القتالية، في ما يتعلق بالحرب
الدائرة في السودان الآن، والتي دخلت شهرها الثامن، بين القوات المسلحة وقوات
الدعم السريع، وذلك من حيث أنها تضم مركز العمليات والسيطرة للقوات المسلحة
السودانية، ومن حيث أنها أرض المعارك الأكثر شراسة.
وكتبت هنا في
"عربي21" من
قبل عن
خروج عبد الفتاح البرهان، قائد
الجيش ورئيس مجلس السيادة السوداني من
الخرطوم، في أوائل أيلول/ سبتمبر الماضي، مصحوبا بتهليل صخّاب من أنصاره، لتصوير
الخروج على أنه انتصار، وقلت عن ذلك إنه من المرجح ألّا تتسنى له العودة إلى
العاصمة لتصريف مهام منصبه كقائد للجيش، وها هو يهيم على وجهه بين مدن السودان
وعواصم دول الجوار، فقط من باب إثبات أنه "رئيس دولة"، مستجديا الوساطات
لإنهاء الحرب، بينما خطاباته داخل السودان مشحونة بالعنتريات، والحديث عن الإبادة
التامة الوشيكة لقوات الدعم السريع.
وبعدها بأسابيع خرج شمس الدين كباشي،
عضو مجلس السيادة ونائب قائد الجيش السوداني أيضا من العاصمة، وخرج بذلك من مجريات
المعارك، ثم إذا بياسر العطا مساعد قائد الجيش أيضا يخرج من العاصمة، ويعتبر ذلك
نصرا، مع أن احتمال عودته إليها، لا يختلف عن احتمال دخول إبليس الجنة.
ما هو حادث فعليا وعلى الأرض، هو أن
الجيش السوداني في حالة انكسار واندحار متسارع أمام قوات الدعم السريع في العاصمة
وغيرها، بل إن إقليم دارفور دان بالكامل تقريبا لسيطرتها، بعد أن اجتاح عددا من
حاميات القوات المسلحة في مدن الإقليم الرئيسة، ويواصل التقدم في إقليمي النيل
الأبيض وكردفان المتاخمين لولاية الخرطوم، بل إن الدعم السريع صار يعتبر نفسه
حكومة أمر واقع في دارفور، حيث شكل مجالس لإدارة شؤون ولايات الإقليم، من حيث
خدمات الأمن والصحة والكهرباء والماء، ثم قام بتشكيل ما أسماه بالإدارة الشعبية في
الخرطوم، من ضباط إداريين وأطباء ورجال شرطة وفنيين من مختلف المجالات.
ولكن كيف لجيش لديه أسلحة طيران
ومدفعية وراجمات صواريخ ومهندسين ومظلات وقوات جوية ومدرعات ومصانع أسلحة وسلاح
إشارة وسلاح نقل وصيانة ومرافق طبية واستخبارات، كيف له أن ينكسر امام قوات هي في
واقع الأمر مليشيا، تخضع لإمرة عائلة آل دقلو وعلى رأسهم محمد حمدان دقلو (حميدتي)
وشقيقه عبد الرحيم، كل عتادها الحربي أسلحة يدوية؟
لم يتوقع أحد داخل السودان أو خارجه ان تتساقط حاميات الجيش كأوراق الخريف، وها هو قائد الجيش ونائبه ومساعده يلوذون بالمدن الآمنة لبعدها عن أماكن الاقتتال، مما يعزز فرضية أن الجيش به مراكز متعددة لاتخاذ القرار، أو أن قرار الجيش مختطف، وإذا صحت هذه الفرضية، فقد يكون خروج هذا الثلاثي من العاصمة ومقر القيادة المركزية، خروجا من المشهد العسكري والسياسي كليا.
كيف لمليشيا لم يسبق لعناصرها
وقياداتها تلقي أبسط العلوم العسكرية في مدرسة أو كلية، أن تتغلب في المعركة تلو
المعركة على جيش به المئات من حملة الماجستير في العلوم العسكرية (شهادة أركان
حرب)، والذين تثقل صدور قمصانهم النياشين والأنواط كناية عن أنهم ذوي دربة في
الشؤون الحربية؟
لا تفسير لذلك سوى أن معظم ذوي الرتب العالية في الجيش السوداني
حصلوا عليها كعطايا من حكومة حزب المؤتمر الوطني، التي أزيح رؤوسها من السلطة في
نيسان/ ابريل من عام 2019، لأن الحصول على أي منصب مدني او عسكري رفيع خلال أعوام
حكم ذلك الحزب، كان رهنا بالولاء والطاعة، أو خفة الوزن، بمعنى عدم رجحان ان يكون
الحاصل على المنصب الرفيع مصدر خطر على الحكومة.
ولكن أخطر ما فعلته تلك الحكومة بالجيش
السوداني، كان إغراق قيادته في الأعمال التجارية، فانهمكوا في تجارة الصمغ واللحوم
والحبوب والسمسم والأواني البلاستيكية وكل سلعة قابلة للتصدير والتسويق، وكان ذلك
من باب إلهاء كبار الضباط عن حقيقة تعمد الحكومة "تكسير مجاديف" الجيش،
بخلق جيوش موازية له، كان أولها ما يسمى بقوات الدفاع الشعبي، ثم الجنجويد، وهم
مجرمو حرب دارفور منذ عام 2003، والذين صاروا نواة لقوات الدعم السريع.
ولما
استشعرت بعض
القيادات الحكومية خطر الدعم السريع، لم يتم التفكير في تعزيز قدرات
الجيش من حيث العدد والعتاد، بل تم تأسيس قوات تتبع لجهاز الأمن والمخابرات بمسمى
"هيئة العمليات"، على أن يكون جميع المنضوين فيها من ذوي الولاء التام
للحزب الحاكم، وبطلب من حميدتي قام البرهان بحل تلك القوات، فتمردت وأوكل البرهان
لقوات الدعم السريع حسمها عسكريا، وكان له ما أراد، وبعد نشوب الحرب رد البرهان
اعتبارها لتشارك في المعارك الى جانب الجيش، كما شرع في تكرار أخطاء حكومة حزب
المؤتمر الوطني بأن استقطب عناصر الحزب لتشكيل قوات رديفه تحارب الى جانب الجيش
بمسمى المُسْتنفَرين، وبهذا يكون قد شكل "قوات دعم سريع" جديدة، صار
قادتها يعربون سلفا عن رفضهم لما يطرحه البرهان عن وقف الحرب بالتفاوض.
لم يتوقع أحد داخل السودان أو خارجه أن
تتساقط حاميات الجيش كأوراق الخريف، وها هو قائد الجيش ونائبه ومساعده يلوذون
بالمدن الآمنة لبعدها عن أماكن الاقتتال، مما يعزز فرضية أن الجيش به مراكز متعددة
لاتخاذ القرار، أو أن قرار الجيش مختطف، وإذا صحت هذه الفرضية، فقد يكون خروج هذا
الثلاثي من العاصمة ومقر القيادة المركزية، خروجا من المشهد العسكري والسياسي كليا.