كشف وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري
كيسنجر في مقابلة نادرة وحصرية مع صحيفة
معاريف؛ كواليس ما حدث خلال حرب عام 1973، خاصة ما دار خلال رحلات تنقله بين تل أبيب والقاهرة زمن المواجهة التاريخية التي انتهت بانتصار
المصريين على
دولة الاحتلال.
كيسنجر الذي تجاوز المائة عام مؤخرا، يذكر في المقابلة التي أجراها أبينوعام بار-يوسيف رئيس مركز سياسات الشعب اليهودي عبر تطبيق "زووم" أن "الأوضاع المتطورة في الشرق الأوسط في خريف 1973 قبيل الحرب كانت تقريبا روتينية، بل إن التقارير الاستخباراتية لم تحتو على معلومات غير عادية، حتى الأسبوع الثالث من أيلول/ سبتمبر حين تحدثت الإحاطات الأمنية عن تعزيز للقوات المصرية، رغم أن الرئيس الراحل، أنور السادات بادر لأعمال مماثلة في سنوات سابقة أيضاً، ولم يفعل شيئاً أبعد من ذلك"، ورغم ذلك قال كيسنجر، إنه طلب من قادة المخابرات تقريرا يوميا عن تحركات الجيش المصري، إذا استمر المصريون بتجميع الجيش.
أشرف مروان
ويضيف في المقابلة المطولة التي ترجمتها "عربي21" أن "المخابرات الأمريكية في كل يوم كررت نفس الخبر، مما أشعرني بعدم الارتياح إزاء تطور الوضع، دون توفر أخبار تدعم مخاوفي، وبدأت أحاول مع إسرائيل لتهدئة الأوضاع، فيما خشيت أن أمارس الضغوط عليها، ولذلك أبلغتني أنها لا ترى سببا يدعو للقلق، رغم تراكم الأخبار لديها في الأيام التي سبقت الحرب عن تمركز قوات مصرية كبيرة غرب قناة السويس، حيث قدّر قادة الجيش ومسؤولو المخابرات فيها، باستثناء عدد قليل من الضباط ذوي الرتب المتوسطة، أنها مناورة، وأن المصريين لا ينوون شنّ هجوم".
وأشار إلى أنه "لم ينشأ الخوف من اندلاع حرب فعلية إلا يوم الجمعة 5 تشرين الأول/ أكتوبر، عشية يوم الغفران، حيث أمر الكرملين دبلوماسييه وعائلاتهم بمغادرة الشرق الأوسط، والعودة إلى منازلهم في موسكو، فيما شهدت لندن في وقت مبكر من المساء وصول رئيس الموساد تسفي زامير بشكل غير متوقع للقاء (الملاك)، لقب العميل المصري أشرف مروان، صهر جمال عبد الناصر، وهو أقرب مستشاري السادات، وتعاون في نفس الوقت مع الموساد، وقبل 14 ساعة فقط من اندلاع الهجوم في سيناء والجولان، حمل مروان الخبر الذهبي عن (ساعة الشفق)، وتنسيق الهجوم الشامل بين السادات وحافظ الأسد".
الانتصار العربي
وأوضح أن "هذه اللحظات في إسرائيل شهدت بدء تعبئة قوات الاحتياط، وغادر قادة الفرق، وركض الآلاف من جنود وضباط الاحتياط لمنازلهم لارتداء زي الجيش، وتشكلت طوابير الإسرائيليين لجمع التبرعات بالدم للجرحى، فيما وجهت واشنطن رسالة قاسية لمصر، ولا أذكر أننا أرسلنا مثلها لسوريا، وأعلنّا عن زيادة الضغوط الدبلوماسية لوقف أعمال العنف، وقمت بتشكيل فريق عمل خاص لاتخاذ القرار بشأن الاستراتيجية المعتمدة، وكان الهدف أن يصل الإسكندرية قبل أن تطأ أقدام المصريين سيناء، بغرض وقف القتال، والعودة للوضع السابق، وكنا مصممين منذ اليوم الأول على منع تحقيق أي انتصار عربي، لأنه سيفسّر نصرا سوفياتياً".
وأوضح أنه "مع اندلاع القتال بدأت تأتينا التقارير الميدانية عن نجاح المصريين بضرب خط بارليف، والتسلل إلى سيناء بأكثر من مائة ألف جندي وأربعمئة دبابة ووحدة كوماندوز، فيما فقدت إسرائيل في الأيام الأولى للحرب مائتي مقاتلة يوميا، وأسر العديد من جنودها، دون أن يتوفر لقواتها الجوية رد حقيقي على صواريخ SA-6 السوفياتية، بل تم إصابة وأسر عدد من الطيارين، وتعرضت أرتال مدرعاتها في سيناء لحالة اضطراب نموذجي، وفي الأيام الثلاثة الأولى للقتال، خسرت 49 طائرة مقاتلة، وتضررت 500 دبابة في سيناء، ونقص في ذخيرة المدفعية بمستودعات الطوارئ، واكتشاف المعدات الصدئة جزئيا، وغير الصالحة للاستعمال".
أكثر من ذلك، فقد "بدأت التقارير تتحدث عن مشاهدة أمهات الجنود الإسرائيليين، وآبائهم وزوجاتهم وأبنائهم لصور الدبابات المحترقة، والجنود المأسورين، فيما أصيبت الحكومة بالذهول، وأوشك وزير الحرب موشيه ديان ورئيسة الوزراء غولدا مائير على الانهيار، وباتت الحاجة ماسة لاستبدال الطائرات التي تم إسقاطها بالذخيرة، واستكمال النواقص في الساعات الأولى من الحرب، فضلا عن عزلة إسرائيل عن العالم، حينها أدركت النخبة السياسية في إسرائيل مدى أهمية تأثير كيسنجر في تحقيق التحول المطلوب كونه شغل في الوقت نفسه أهم منصبين في إدارة نيكسون: وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي".
القطار الجوي
واستدرك قائلا إن "القطار الجوي من واشنطن إلى تل أبيب غيّر شكل الحرب وخريطتها، عقب طرح مسألة تجديد الإمدادات، مع العلم أننا بدأنا المناقشات حول الحرب بافتراض أن التفوق العسكري هو لصالح إسرائيل، ولم نأخذ على محمل الجد مطلقًا احتمال اضطرارنا للتعامل مع الحرب التي ظهر السوفييت يتمتعون فيها بالأفضلية، وعندما أصبح الأمر واضحًا لنا، بدأنا المناقشات حول إعادة تزويد إسرائيل بالمعدات، رغم معارضة وزارة الدفاع بشدة لذلك، ولهذا اقترحنا على إسرائيل أن ترسل طائرات، ونقوم بتحميل المعدات عليها، وهي معدات عالية التقنية تستخدم فورا".
وعند الإجابة عن سؤال حساس "متى جاءت أول مكالمة من غولدا مائير، وفي أي نقطة أشارت إلى أنها بحاجة ملحة لاستلام المعدات، فإنه في تلك المرحلة لم تظهر إشارات استغاثة أو إلحاح من كبار ضباطها، حتى وصل مكتبي صباح الثلاثاء السفير الإسرائيلي سيمحا دينيتس، برفقة الملحق العسكري موتيه غور، ووصفا لي حجم الخسائر الإسرائيلية خلال الـ48 ساعة الماضية، وطلبا بشكل عاجل تجديد الإمدادات، لكني رددت عليهما بالقول، إن إسرائيل مطالبة بوقف تقدم القوات المهاجمة على الجبهتين قبل اتخاذ أي مبادرة دبلوماسية".
وكشف كسينجر بالقول: "وافقت على الطلب الإسرائيلي بتنظيم قطار جوي على الفور، لكن اتضح أن ترتيب إمداده أمر معقد للغاية، وينبغي دراسة التطورات بشكل منطقي، في هذه الأثناء، بدأت إسرائيل بالتحضير للهجوم على الجولان، وفي الوقت نفسه جرت مناقشة حول اقتراح وقف إطلاق النار الذي طلبته إسرائيل، لكني عارضت ذلك بشدة بينما تستمر المكاسب المصرية في ساحة المعركة، وأولينا أهمية كبيرة لخطر أن يُنظر للأسلحة السوفيتية على الساحة الدولية بأنها ذات جودة أعلى بسبب نجاحات الجيش المصري".
وأوضح أنه "بعد أسبوع من اندلاع الحرب وصل القطار الجوي العسكري، واستغرق الأمر ثلاثة أيام حتى يتمكن الجيش الأمريكي من جمع المعدات اللازمة، ولم يكن هناك حليف محظوظ إلى هذا الحد مثل إسرائيل، ولا أقبل ادعاءاتها بتأخير وصوله، لأنه كان لدينا انطباع بأنها ستتمكن بسهولة من إدارة الحرب، وهزيمة الجيش العربي، ولذلك جاء رفض السادات لمقترحات وقف إطلاق النار الذي قدمته إسرائيل، لاعتقاده أنه كان منتصرا، ويستطيع تكرار النجاح في بداية الهجوم، وضخ قوات إضافية في سيناء، لأن إسرائيل لا تملك تفوقا جويا بسبب بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات السوفييتية".
وكشف أن "التغيير في خريطة المعركة بدأ يظهر بعد الهجوم المضاد في الجولان، ودفع السوريين لمسافة تصل 40 كم من دمشق، وطلبت سوريا من مصر تكثيف القتال في الجنوب لتخفيف الضغط في الجولان، وقد حاول المصريون ذلك، لكنهم فشلوا، عقب تحسين إسرائيل لوضعها في ساحة المعركة".
تطبيع السعودية
يخرج كيسنجر بفرضية مفادها أن "السادات توصل لاستنتاج مفاده أن العالم العربي يحتاج جرعة من النصر العسكري لتجنب الشعور بأن الفشل ضد إسرائيل أمر لا مفر منه، خاصة بعد التهديد العربي بمواصلة قطع النفط التي أزعجت بعض حلفائنا في العالم، كاشفا صراحة أنه ونيكسون أرادا منذ اللحظة الأولى الاستفادة من الحرب للحفاظ على إسرائيل، ولكن في السياق الأمريكي، من خلال وضع حد للوجود الروسي في المنطقة، لأنني معني بحماية المصالح الأمريكية، وبالتوصل لتسوية شاملة، وإعادة إسرائيل لحدود 67".
ينتقل كيسنجر في حديثه لما يتردد بشأن اتفاق تطبيع بين إسرائيل والسعودية، قائلا إنني "أرى النتيجة إيجابية، لكنني لست هادئاً بشأن التنازلات التي نقدمها، في رأيي، هذه تنازلات بعيدة المدى للغاية، ولا أعلق عليها حاليا، لأنني أفضل استنفاد الجهد قبل أن أبدي رأيي، على أية حال، نحن اليوم في وضع جديد، بعد اتفاقيات التطبيع، وهي إنجاز كبير، وخلقت وضعا جديدا يتيح الأساس لاتفاق إسرائيلي سعودي، رغم أن إسرائيل تواجه نقصاً في القيادة، من جميع الأطراف التي تشهد نوعاً من الحرب الأهلية، وأشعر بقلق بالغ إزاء انقساماتها المنكشفة اليوم، وتؤدي لصراعات مزعجة وخطيرة للغاية".