تقارير

لماذا تنحصر ثقافة الترفيه على فنون الفرجة بينما يغيّب الكِتاب؟

تحتل الفرجة والفعاليات الغنائية الحيز الأكبر من الفعاليات الترفيهية في العالم العربي في غياب كامل للكتاب
مهرجان صيفي أو تظاهرة صيفية كبرى في دولة عربية، بالضرورة سهرة غنائية أو مسرحية بينما يقصى: "الكتاب" الذي هو أًصل كلّ هذه الفنون. من منطلق أنّ كلّ الفنون مبنية على الكلمة والنص. لماذا إذن ينحصر مفهوم الترفيه في فصل الصيف وتقريبا في كلّ الدول العربية، على فنون الفرجة بينما يغيّب الكتاب وكأنّه حكر على "النخبة"؟ قد يأتي صوت من هناك ليعلّق على سؤالي قائلا: "الصيف للترفيه، الناس تريد السّهر والترويح عن النفس: هل نعرض لهم كتابا مثلا؟" وقد أردّ على هذا الصوت (وهو شبيه لأصوات كثيرة): "تصوّر سائد حبيس النمطية والمعيارية. هل توجد قطيعة بين الثقافة والترفيه؟"

في الواقع اقتصار المهرجانات الصيفية على فنون الفرجة وانحصار ثقافة الترفيه في أنشطة معينة دون أخرى وإقصاء الكتاب يحملنا إلى أكثر من سؤال له علاقة بالسياسة الثقافية ولا يمكن الحسم في هذا الموضوع بهذه السهولة. لهذا قد تكون مبادرة منا لتسليط الضوء على الموضوع من خلال لقاءات مع عدد من المثقفين والباحثين العرب: فكيف كانت إجابتهم على الإشكال المطروح وما هي تمثّلاتهم لثقافة الترفيه؟ وهل هم مع أو ضد فكرة إمكانية إدماج الكتاب في التظاهرات الصيفية الكبرى؟

سيد محمود: "تظل المسافة موجودة بين الترفيهي والثقافي"
يفصل الصحفي والناقد المصري سيد محمود بين الترفيه والثقافة بناء على ما هو سائد في المجتمعات العربيّة، إذ يرى أنّ: "الترفيه بطبيعته يميل إلى فنون الفرجة والفنون الخفيفة، بينما العمل الثقافي يميل إلى العمق وتجنب السطحية وفي نفس الوقت البعد عن ثقافة الاستهلاك." ومن هذا المنطلق فـ: "سيكون العمل الثقافي ضيفا ثقيلا على الترفيه. وتظل المسافة موجودة بين مهرجانات الترفيه التي تشهد حضورا كبيرا، في حين الفعاليات الثقافية يندر فيها حضور الجمهور، وهذا واضح على الصعيد العربي".

ورغم أنّ محمود يرى فارقا بين الفعل الثقافي والفعل الترفيهي، لكنه يعود بنا إلى التظاهرات الأوروبية ويقيم مقارنة بينها والتظاهرات العربية من حيث الدمج بين الثقافي والترفيهي، ويذكر كمثال: "مهرجان لقاء ريميني حيث يتسم هذا المهرجان بالقدرة على الجمع بين الترفيه والثقافة، وتوضع كل الفعاليات في فضاء واحد يستطيع أن يجذب شرائح وفئات عمرية مختلفة؛ فنرى المسرح والسينما والسيرك والندوات التي يشارك فيها بعض الشخصيات الفكرية من العالم".

ميادة كيالي: "يجب أن نمتلك ثقافة القراءة أوّلا.."
تفسّر الباحثة والكاتبة السورية ميادة كيالي تحديد الترفيه الصيفي بالفنون الترفيهية وفي المقابل تتجاهل فعاليات الكتاب في الأجندات الثقافية بـ"عاملين رئيسيين: الأول هو أن فصل الصيف هو فصل العطلات والاسترخاء للكثير من الناس، ويضم العديد من المهرجانات الموسيقية، الرحلات والألعاب الرياضية. هذه الأنشطة قد تكون أكثر جاذبية للناس كأنشطة خارجية، مقارنة بالجلوس في المنزل. علاوة على ذلك، قد يتجه الناس نحو استهلاك المحتوى الرقمي مثل الأفلام، الموسيقى والألعاب الإلكترونية. وفي هذا السياق، يصبح من الصعب للكتاب أن يجد مكاناً بين هذه الخيارات، خاصة في غياب فعاليات تروج للكتب".

ويتعلّق العامل الثاني بـ"ثقافة القراءة"، وفي هذا السياق ترى الباحثة أنّه: "لا يزال هناك تحد في تعزيز هذه الثقافة في العالم العربي. بينما يتمتع الإنسان الغربي برفقة الكتاب الورقي منذ الصغر، ولا يضيع وقتا في محطة أو رحلة سفر دون قراءة، نجد أن الشعوب العربية لا تزال تسعى لتشجيع القراءة من خلال تحديات وجوائز وبرامج تروج لأهمية القراءة وأثرها في تطوير شخصية الأطفال وزيادة معرفتهم. ومع ذلك، فإن معدلات القراءة في العالم العربي لا تقارن بتلك المسجلة في الغرب، حيث تواجه الكتب وصناعتها تحديات ناتجة عن غياب الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تجعل الكتاب في متناول الجميع". إلاّ أنّ الأمر يخالف حسب الباحثة لو قارنا المجتمعات العربية بالغربية في هذا الخصوص إذ تقول:" في الطائرة مؤخراً، رأيت ثلاثة أطفال عرب يقضون وقت الرحلة في اللعب بالأجهزة اللوحية، بينما كانت سيدة غربية في الستينات تقرأ في كتاب طوال الرحلة. في الغرب شهدت أطفالاً صغاراً في القطارات والطائرات يجلسون مع كتب، بينما يميل أطفالنا إلى الألعاب الإلكترونية والأفلام".

وتقدّم الدكتورة ميادة الكيالي المقترح التالي: "لجعل الكتاب جذاباً وحاضراً في جميع الفصول، يجب أن نمتلك ثقافة القراءة وأن يتاح الكتاب للجميع بشكل اقتصادي. سبق واعتمدت استراتيجية مع أبنائي عندما كانوا بعمر ثماني سنوات: تقضي بمنحهم وقتاً محدداً للألعاب الإلكترونية معادلاً لوقت القراءة، ونجحت في ذلك".

أمّ الزين بنشيخة: "المؤسسات الثقافة مجرّد إدارة خدمات ثقافية"
تنطلق الباحثة التونسية أم الزين بنشيخة في الإجابة عن سؤالنا بتعريف الثقافة في السياق التالي: "إذا كانت الثقافة تعني تحديدا تطوير جملة من أنماط الوجود الخاصّة بجماعة بشرية ما من أجل الشعور بهويّتها وقدرتها على الاحتفال بالمشترك الرمزي والروحي الذي يجمعها، فإنّ أنماط الوجود الرمزيّة هذه تتجلّى في أشكال مختلفة من التعبيرات والتمثلات والسلوكيات والمعايير والطقوس والأعراس الجماعية والفنون الإبداعية.. ويمكن التمييز هنا بين التعبيرات التي يتمّ فيها استئناف المخيال والاحتفاء بالماضي الرمزي، والتعبيرات الإبداعية والقوى المجدّدة لروح شعب ما. فالأولى تنجزها الأعراس والطقوس والفلكلور، والثانية خاصّة بالروائيين والشعراء والمفكّرين..".

وبناء على ذلك ترى بنشيخة أنّ: "اختزال الفعل الثقافي في فنون الفرجة أي في الاقتصار على تمجيد الذاكرة خطير جدّا لأنّه يؤدّي إلى تربية الناس على اعتبار الماضي هو المرجع الرمزي الوحيد للهوية المشتركة. وهذا خطير ليس فقط على ثقافة الكتاب بل على ثقافة المستقبل. وذلك لأنّ الكتاب يساهم بشكل رئيسي في اختراع تمثّلات جديدة بدونها تتحوّل ثقافة شعب ما مع الزمن إلى مجرّد كرنفال عمومي لإنتاج الحمق المعمّم. والحمق هنا معناه عدم قدرة شعب ما على تجديد القوى الحيوية الممكنة من أجل المستقبل. وشعب يفقد القدرة على المستقبل هو شعب آيل إلى الخراب. وكم من الشعوب اندثرت عبر التاريخ بسبب حمق سياساتها وغطرسة حكّامها".

وتنتقد أم الزين بنشيخة الوضعية "الهشة" للكتاب وترى أنه "مهدّد بالثورة الرقمية التي عوضته من جهة، وهو من جهة ثانية مهمّش من طرف المؤسسات الثقافية التي تحوّلت إلى مجرد إدارة خدمات ثقافية". لتدعو بذلك إلى "تغيير السياسة الثقافية واستعادة ثقافة الكتاب بوصفه قادرا على تجديد العلاقة الرمزية بالحياة عبر اختراع أنماط أخرى من إمكانيات الفرح على نحو مغاير لثقافة الترفيه في نظام التفاهة. كلّ كتاب هو عالم جديد نشيّده مكان عالم قديم لم ندرك بعدُ أنّه قد انهار ولم يعد يصلح إلاّ بوصفه خردة ميتافيزيقية لشعوب خرجت عن دائرة التاريخ".

علي فاضل: "المسؤولية على جيل البيئة الرّقمية"
يفسّر أستاذ علوم الاتصال في العراق علي فاضل "النفور الغريب" اليوم من الكتاب بـ "جيل البيئة الرقمية التي باتت تحيط أذهان وأفئدة الجمهور بأعمارهم كافة، وهنا يكمن الخلل، فعدم وجود الألفة بين الكتاب وقارئ اليوم تعد السبب في انحسار الفعاليات الترفيهية التي يكون الكتاب فيها الركن الرئيس، وبذلك تلجأ الكثير من المؤسسات إلى الاستعاضة بفنون أخرى وبدائل ترفيهية تعوض انكماشية التفاعل مع "خير الجلساء".

ويعود بنا فاضل إلى تجربة بلاده فـ"فنون الفرجة في العراق -حسب اطلاعي- لا تجد رواجا أو تأثيرا ملحوظا في الواقع الترفيهي، أو ربما حتى في الواقع الفني إذ يتمّ الهروب إلى الرياضة بدلا عن الفنون المسرحية أو الفعاليات الثقافية، وبالرغم من ذلك فإن الكتاب يبقى حليفا لدى البعض ويشكل حضورا ضئيلا، لكني وبشكل شخصي أؤمن أن الكتاب سيعود، وسيشكل في السنوات –ربما- العشر القادمة أو بعدها حضورا مهما في ميادين العلم والمعرفة، وسيكون له ذات تأثير الإنترنت وذات ضجتها حين دخلت أوّل مرة حياة الشعوب... سيكون للكتاب في السنوات المقبلة، وسيجد المرفهون ملاذا في بطن الكتاب يسكنون إليه".

نزار شقرون: "لا نمتلك لثقافة الترفيه تعريفا صائبا"
ينتقد الباحث التونسي نزار شقرون التمثّلات العامة لمفهوم الترفيه ويرى أنّ ذلك سببا رئيسا في إقصاء الكتاب، فـ"ثقافة الترفيه لا تعني بالضرورة إقصاء الكتاب، ويبدو أن ما يشاع، على سبيل الخطأ، هو أن الكتاب رديف للجد، بمعنى مفارق للمتعة. وقد يعود ذلك إلى تبني تعريف للترفيه يفيد كل ما هو مناقض لما هو جاد، وبالتالي يكون الترفيه ميوعة أو انحرافا عن الانضباط، وقد ساهمت هذه النظرة الخاطئة لدور الكتاب ولمفهوم الترفيه في استبعاد الكتاب من كل فعالية "ترفيهية".

ويعتبر نزار شقرون أنّ هناك "نظرة قاصرة للكتاب ترى فيه مجلبة لـ"النكد" وللهموم بدل المسرة، وهذه النظرة من عوامل تدني مكانة ثقافة الكتاب، وازدراء الكتّاب أيضا، وهو أمر يشيع في المجتمعات العربية أكثر من غيرها من المجتمعات، حيث لا يتناقض الترفيه مع الكتاب، فلا يمكن أن نتجاهل بأن فنون الفرجة قائمة على الكتاب أيضا، حيث تكون الفكرة والسيناريو علاوة على العناصر الفنية الأخرى، لذلك فلا معنى لإهمال الكتاب بدعوى الانتصار إلى ثقافة الترفيه "الخالية" منه".

وينتهي شقرون بذلك إلى التأكيد أنّنا "لا نمتلك لثقافة الترفيه تعريفا صائبا، فكيف نعتبر الكتاب وهو خير جليس بأنه آخر جليس في سياق الترفيه. وإن غاب الكتاب عن "الأجندات الثقافية" فذلك لقصور في النظرة لدوره ولصلته بالترويح عن النفس وعلاج ما بها من سقم، لقد كان الكتاب مؤانسة دائمة في ثقافتنا العربية ومن الغريب ألا يكون له مكان في ثقافة "الترفيه"، إلا إذا كان الوعي بالترفيه مقترنا بسبات العقل وانحلال الوجدان!".

حاولنا جمع آراء تمثيلية من بعض الدول العربية، على أنّ القضية تتطلّب نقاشا أكثر داخل الفضاء العام... فلربما تمكنّا من خلاله من إيجاد آليات لإعادة موقعة الكتاب في السياق العالمي الجديد والقطع مع النظرة السطحية للترفيه على أنّه مجرّد سهرة غنائية يغلب عليها التمييع أحيانا أكثر حتى من الترفيه الذي يترك أثرا في النفس ويحلّق بها بعيدا.

قد تكون الثقافة مشروطة أيضا ببعدها الترفيهي مثلما الترفيه ثقافة أيضا. أليس الإشكال أيضا في عدم قدرة جزء من النخبة في تحقيق المصالحة بين ثقافتهم والثقافة الشعبية؟ أو ربّما هي أيضا مسألة تمثّلات اجتماعية لثقافة الترفيه في علاقتها بالقراءة وأنّ القراءة لا يمكنها أن تؤدّي وظيفة الترفيه؟ ولكن أين تلك المرجعيات التي تحفّز على القراءة بما هي نوع من الترفيه أيضا؟ أليس ممكنا تقديم الكتاب والتشجيع على القراءة ضمن تصوّر ترفيهي يتماشى مع خصوصية السياق والتكنولوجيات الحديثة؟ ألن ننجح في تحويل الكتاب إلى "بيزنس" مثلما نجحنا في تحويل بقية القطاعات الأخرى ناهية مع التطوّر التقني الرّهيب. لنوضّح هنا مفهوم "البيزنس" أو إخضاع الكتاب كمنتج إلى نظام السوق لا يعني بالضرورة التمييع أو التسليع وإنما موضوعنا هنا كيفية عرض الكتاب والترويج له في سياق ترفيهي غير مملّ.

في الواقع نحن في حاجة إلى فتح ملف الكتاب من عدّة زوايا حتى نتمكن من إعادة موقعته في السياق العالمي "المحكوم" بثقافة استهلاكية يدعمها "الذكاء الاصطناعي" والأمر يحملنا لأكثر من سؤال وأكثر من قضية.