جدلية الحكم:
حتما ليس طول مدة
الحكم ولا بقائه عنوان نجاحه ولا خلوه من الأصوات المضادة أو
الإصلاحية دليل صلاحه؛
ولا الحق بكثرة مناصريه ولن يمسي باطلا بقلتهم، والنصح لا يأتي من منافق، ولا
الصواب إلا من حصيف. فما سأكتبه هنا نصرة لمستقبل أمة تتراجع عندما لا نعظم
الجوانب الإيجابية ممن سبقنا أو من معنا، رغم أن الدارج هو مرآة الساحرة، لذا كثر
النفاق والتسول بالتقرب من المتمكنين في أمل تدفعه الأنا عند الطرفين ويصدق "اُتْرُكُوهُمْ.
هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ
كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ" (مت 15: 14). وإنما معالم اليقظة أن يبطل
النفاق فتكون نهضة في دول متمكنة تتبع سبل الاستمرار والثبات في الطريق: "وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة: 71).
من أجل هذا نجد
أن مراجعة ضرورية لمسار حرج فيه نجاحات وفيه إخفاقات، ونركز على الإخفاقات بغية
إصلاحها، وإذا بحثنا في الواقع العربي فإننا سنجد إخفاقات مع سلطات تفتقر إلى
الاستقرار. ومن المتجاوز لمتن هذا المقال البحث في الفشل المتواصل وسوء الإدارة
فيها، بيد أننا إن نظرنا إلى النظم الوراثية من الملوك والأمراء والمشايخ نجد أنها
مستقرة ومعالم الإخفاق فيها ممكن حصرها، لأن فيها أيضا تقدم وتطور مدني يسير بخطى
واثقة تعلو وتهبط لكنها بالاتجاه المقبول وأحيانا تسبق الأحلام وأحيانا تقصر عنها
وهنالك تخلف في بعضها واضحا أيضا، بيد أن هنالك مفقودات مهمة جدا في الرحلة هذه
وهي تختلف من بلد إلى آخر منها:
* معالم
الشخصية الحضارية التي لم يبق منها إلا العنوان.
* الاستيراد
للمدنية دون اهتمام الأكثرية بأن توطن وتتوالد في البلد.
*
التشتت في الجيل الثاني وتهدم فيما بناه الجيل الأول من إيجابية.
*
غياب الرؤية الحضارية والمدنية.
مفقودات
الأمة:
لم تتعامل الأمة
مع الدين سواء الإسلامي أو غيره إلا بصيغة المقدس، وافعل ولا تفعل، وفي دول تحكمها
الشريعة المتوارثة ووفق فهم محدد لسلطة هذا حلال وذاك حرام أو صالح وكافر. يولد
الطفل ليكبر متمسكا بالمظهر وما يظن أنه الدين بفاعلية الغريزة، فينقسم ما بين متعصب
وبين منافق يزعم الالتزام ولكن سلوكياته ظرفية وليست ملتزمة بمعايير القيم، خالٍ
من الأهداف حتى في توجهه إلى تأدية فرائضه فهو يكون نموذجا في السلوك السيئ المنفر،
وأناس عابدين طيبين، فكانت استفاقة بتأثير ما ليس محددا ولم تدع مجالا واسعا للاعتدال
بل إلغاء كل شيء بشكل مبرمج وخروج نقاط الضعف في التربية السابقة لتكون فوضوية...
هذا يؤشر كتراجع يحتاج إلى تكييف.
هنالك تطور مدني
كبير لكن هذا التطور بالشكل ينقصه بناء الإنسان وتعلمه كيف يعمل على صيانة هذه
المدنية بنفسه دون حاجة لأعداد تفوق أعداد السكان الأصليين من دول مختلفة عنه
ثقافيا ودينيا وقوميا، وربما الزمن وطول الإقامة تستوطن هؤلاء الناس فيخلق مشاكل
حقوق بينما لو تدربت الكوادر على خدمة نفسها وصيانة منشآتها والدخول في الإبداع والإعمار
وانتقلت من حالة شراء المدنية واستيرادها إلى المشاركة في بنائها لكان الوضع مختلفا،
فاستيراد المدنية وهم لتجلي الحلم لكن ليس واقعا في يقظة.
الجيل الأول من
الأنظمة المستقرة وهي في مجلس التعاون الخليجي والمغرب والأردن بنت وتكيفت، وأنتجت
دول الخليج مجلس التعاون الخليجي، وهي الآن وفق الإحصائيات لبعض المنشور على الإنترنت
نحو 25 مليون نسمة من السكان الأصليين، وهو مجلس لضبط إيقاع تلك الدول وتسوير نفسها
بتنسيق القرار والحماية وجوانب من المال والأعمال، هذا المجلس تعرض لنوع من التفكك
مع الجيل الثاني، تجاوز غياب التنسيق والتماهي والانسجام بينما الواقع العالمي
وبنظرة الشباب الذي يحكم كان عليه أن يتجه إلى العكس تماما لخلق موضع لدول الخليج
في النظام العالمي، وأن يكون كل أمر مدروس ومحسوب حتى التكتيك بدرجة من التخطيط
المحكم. فهذا نوع من التراجع ومسار عكس المطلوب وتسهيل لابتلاع وتجيير المصالح
بشكل منفرد وإبقاء دول الخليج ضمن الغنائم التي تتقاسمها الدول المتصارعة كمناطق
نفوذ كذلك بقية الدول العربية، بينما لو اتحدت وأعادت تنظيمها بما يلائم المستجدات
وضمت في أطرافها الدول العربية باتفاقات إما توسعة العضوية أو التعاون المشترك أو
التحالف البيني؛ لكان الأمر مختلفا وستخرج المنظومة قوية لها كلمة فصل وقوة قرار.
جدلية الأهداف
لا شك أن هذه
المنطقة تجمعها منظومة أخلاقية قيمية حضارية مختفية برمال التاريخ المتحركة
وعواصفه، وأن الأمة لا تقوم بغير هذه القيم إلا كما تشيّد عمارة بلا أسس. وهذا
ثابت من حركة التاريخ نفسه، بيد أنها تحتاج إلى رؤية وفتح الطيات (المثاني)
القرآنية، وهذا يأتي من خلال تحرير المنظومة المعرفية وإبراز ثقافة وشخصية الأمة
بشكل واضح جلي له الكلمة أمام منظومة نفعية تنهار ولا بديل لها، وستأتي بمنظومة أشد
مسخا من هذه بغياب يقظة فنهضة تقودها دول وتتبناها لتوضح الرؤية والبرنامج بواسطة
مفكرين ينبغي أن يبحث عنهم لانهم الأمل وليس ينظر لهم بعين الارتياب أو من خلال
الهزيمة الحضارية، فمن الطبيعي أن من يصلح الواقع لا يوافق الواقع ولكن هذا لا
يعني أنه من المخاطر بل هو من سيعين الحكام بالفكرة على تصويب المنظومة المعرفية.
إن أي جدلية
إيجابية بين الحكم والأهداف تحدده الرؤية وبرامج تبني أيديولوجيا وتحدد مسارات،
وهذا لا يأتي بالتقليد أو استيراد المدنية أو البرامج المتماهية مع ثقافات مختلفة
وإنما من داخل المنظومة يكون الإصلاح، وعدا ذلك سيخلق القلق ثم الفوضى والانكسار
وتشتت الأمة. فلا بد أن ينظر القادة إلى هذا ويستخدموا شواهد ودلائل من داخل الأمة،
فالمفكر الناصح الأجنبي أو المنبهر بثقافات أخرى أول ما يفعله يفقدك الثقة
والاحترام لكينونتك كي تسمع الهراء الذي يبثه في ترسيخ الدونية أو الازدواجية والانبهار
بما سيقدمه، وهو بالتأكيد لن يفهم قيم الأمة ليتواصل مع ثقافة ينتزعها ليحل محلها
تجنيد القرار وتكييفه لصالح إبقائك متلقيا منه.
هذا ليس تآمرا بل
مثله كمثل الواعظ الذي يستنبط من الذاكرة المعرفية المنقولة ويريد أن يتطبع الحاضر
بها كقالب فيشوه الفكر ويقطع سبل تصحيح المسارات، كذلك المفكر الأجنبي يستنبط من
ثقافته كقالب ليضع شعب الدولة التي تستعين به ويرى انه الأكثر تمدنا أمام متخلفين،
وتبخل هذه الدول على إنشاء مراكز فكرية لنهضة مجتمعها بفكرها من خلال استقراء
الواقع واستنباط ما يصلح لعلاجه.