أفكَار

كيف يقرأ الإسلاميون العرب الانتخابات التركية وتجربة أردوغان؟ رأي من الجزائر (5)

كيف تعاملت الحكومات التركية المتعاقبة مع المسألة الكردية؟- جيتي
كيف يقرأ الإسلاميون العرب تجربة حزب العدالة والتنمية التركي وزعيمه رجب طيب أردوغان؟ وما هي الدروس المستفادة من هذه التجربة عربيا وإسلاميا؟

الدكتور عبد الرزاق مقّري الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم الجزائرية، يقدم وجهة نظر في تجربة إسلاميي تركيا، وتحديدا الرئيس رجب طيب أردوغان في السلطة، في دراسة تنشرها "عربي21" على حلقات، بالتزامن مع نشرها على صفحة الدكتور مقّري الخاصة في "فيسبوك".


لماذا يتمسك الأكراد باتفاقية "سيفر"؟

تحفظت الولايات الأمريكية الصاعدة بين الحربين العالميتين على اتفاقية سايكس بيكو بعد افتضاح أمرها وأعلن الرئيس الأمريكي وودرو ويلسن (1856- 1925) مبادئه الأربعة عشر عام 1918 الداعية إلى تقرير الشعوب مصيرها فتشجع بها الأكراد في مسيرتهم لتقرير المصير.

بعد نهاية الحرب أُجبِرت الدولةُ العثمانية على إبرام اتفاقية "سيفر" في باريس عام 1920 مع البريطانيين والفرنسيين والإيطاليين لتقسيم "تركة الرجل المريض"، واستغلت الأقليات القومية والمذهبية الفرصة وكان لكل منها قوى دولية تسندها سوى الأكراد الذين اتفقوا أن يمثلهم في مفاوضات باريس شخصية سياسية منهم من أسرة كردية عريقة كان موظفا ساميا في الدولة العثمانية كوزير للخارجية ومستشار للسلطان عبد الحميد وسفيرا في عدد من الدول إلى أن انشكفت صلته بجمعية الاتحاد والترقي وظهر عداؤه المبطّن ضد الدولة العثمانية فاستقال من منصبه كسفير للدولة العثمانية في السويد آنذاك.

انتهت المفاوضات الباريسية باتفاقِ تخلِّي الدولة العثمانية عن كل الأراضي التي تقطنها أغلبية غير تركية، ولأول مرة اتُّفق دوليا على إمكانية منح الأكراد دولة مستقلة في كردستان، ولهذا يتعلق الأكراد كثيرا باتفاقية سيفر إلى الآن.

لم يَقبل القوميون الأتراك في الجيش العثماني، وعموم الشعب هذه المعاهدة ورفضوا اجتياح الحلفاء بلادهم ودخولهم العاصمة اسطمبول وثاروا ضد احتلال اليونان أزمير والمناطق المحيطة بها فقادهم مصطفى كمال لخوض حرب الاستقلال ولإسقاط الاتفاقيات التي أبرمتها السلطنة العثمانية المتهاوية وحققوا انتصارات كبيرة أسقطت معاهدة سيفر، وأثناء المفاوضات مع الأوربيين لإبرام معاهدة جديدة رفضوا منح الاستقلال للمناطق الكردية خلافا للقوميات الأخرى التي كانت تابعة للدولة العثمانية خارج الأناضول وتراقيا الشرقية، وكانت حجتهم أن الأتراك والأكراد أشقاء مسلمون ومصيرهم مشترك، علما أن أتاتورك كان يستعمل أثناء حرب الاستقلال التركية الخطاب الديني لتجنيد السكان ووعد أنه سيعيد بناء الدولة على أساس ديني وحدوي ويكون الأتراك والأكراد عناصر أساسية فيها، وفق ما كتبه المؤرخ التركي والنائب السابق للعدالة والتنمية عن ديار بكر في مجلة "التاريخ العميق" والذي يؤكد بأن وثيقة الاتفاق الذي أبرم مع الأكراد في 27 حزيران/ يونيو 1920 لا تزال موجودة في أرشيف الرئاسة التركية.

لم يكن البريطانيون والأوروبيون مهتمين بمصير الأكراد لأسباب عديدة ، منها ضعف الأهمية الاقتصادية لمناطقهم وخوفا من ارتماء المفاوض التركي في أحضان الدولة الشيوعية الصاعدة، وبسبب غياب التغطية الرسمية للأكراد وتشتتهم وعدم وجود جهة ثابتة تمثلهم، فتراجعوا في اتفاقية لوزان بسويسرا في 20 آب/ أغسطس 1922 عن وعودهم للأكراد، مكتفين بوعود حكام تركيا الجدد بأن الجمهورية التركية الناشئة ستمنح كامل الحقوق المدنية للأكراد وستكون تركيا الحديثة دولة لامركزية تمنح هوامش واسعة في التسيير المحلي لكل مناطق البلاد. اتضح للأكراد في آخر المطاف بأن الدول الأوروبية استغلتهم عبر مسار تاريخي طويل لإضعاف الدولة العثمانية لا غير وفهمت النخب الكردية المنبهرة بالحضارة الغربية أن تبنيهم للنهج العلماني الليبيرالي المناقض للإسلام وللوحدة الإسلامية لم يُجدها نفعا لدى القوى الأوربية العلمانية المسيحية، وحين تمكن مصطفى كمال أتاترك وسيطر على الدولة نكث عهوده للأكراد وانتهجت حكومته نهجا قوميا تركيا متطرفا لإلغاء هوية القومية الكردية إلى جانب محاربته للهوية الدينية الإسلامية، فتذكرت النخب الكردية المتدينة المكانة المشرفة للأكراد مع السلاطين العثمانيين الملتزمين منهم بالقيم الدينية والأخوة الإسلامية في الدولة والذين كان آخرهم السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله.

لم يكن البريطانيون والأوروبيون مهتمين بمصير الأكراد لأسباب عديدة ، منها ضعف الأهمية الاقتصادية لمناطقهم وخوفا من ارتماء المفاوض التركي في أحضان الدولة الشيوعية الصاعدة، وبسبب غياب التغطية الرسمية للأكراد وتشتتهم وعدم وجود جهة ثابتة تمثلهم، فتراجعوا في اتفاقية لوزان بسويسرا في 20 أوت\اغسطس 1922 عن وعودهم للأكراد،
لم يقبل زعماء الأكراد المتدينون الذين كانت لهم وجاهة كبيرة في الأوساط الشعبية المحلية التوجه العلماني وسياسة التتريك فقاموا بعدة ثورات أهمها ثورة الشيخ سعيد بيران سنة 1925 التي قامت لإعادة روح الخلافة الإسلامية وإعادة جمع شعوب المنطقة على أساس الإسلام ـ وليس الانفصال ـ شارك فيها أكثر من نصف مليون كردي في أغلب المناطق الكردية وساندهم فيها العديد من الأقليات الأخرى ولكن تم إخمادها بقسوة كبيرة وأعدم زعماؤها على رأسهم الشيخ سعيد.

كما قامت ثورات كردية أخرى انفصالية مثل ثورة الأرارات 1930، وثورة درسيم ضد قانون الترحيل القسري وفق قانون إعادة التوطين 1930 التي وقعت فيها مذبحة مروعة، اعتذر بشأنها الرئيس الطيب أردوغان باسم الدولة لسكان المنطقة في التلفزيون يوم 23 نوفمبر 2011 واتجه إلى كمال كليتشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري يدعوه أن يتحمل مسؤوليته باعتبار أن حزبه هو الذي كان يحكم آنذاك.

وفي تلك الأثناء وضمن الحركات الإصلاحية الإسلامية التي ظهرت بعد سقوط الخلافة الإسلامية في العالم الإسلامي للدعوة إلى الإسلام والاستئناف الحضاري للأمة الإسلامية برزت في تركيا الحركة النورسية التي أسسها المصلح الكبير الشيخ سعيد النورسي، وهو كردي الأصل والمنشأ ولد لوالدين كرديين عام 1878 م في قرية نورس بإقليم بتلس شرقي الأناضول، اشتهر بحكمته وعلمه في مختلف العلوم حتى سمي بديع الزمان، وعُرف بجهاده في مواجهة الروس القيصرية في الحرب العالمية الأولى حيث تم أسره ولكن نجح في الهروب من السجن بسيبيريا كما قاتل في الصفوف الأولى في مواجهة الحلفاء أثناء احتلالهم اسطنبول فنال مكانة كبيرة في الأوساط العسكرية، وقد تكون هذه المكانة هي التي حفظته لاحقا من الإعدام.

وبعد إسقاط السلطان عبد الحميد أسس الشيخ سعيد النورسي جمعية "الاتحاد المحمدي" التي شملت مختلف القوميات والأعراق في تركيا من أجل الإصلاح على النهج الإسلامي ضد توجهات جمعية الاتحاد والترقي، وحينما ظهرت حقيقة التوجه الأتاتوركي كرس النورسي عمله ضد إلغاء الخلافة والتوجهات العلمانية وسياسات التتريك وإلغاء التعليم الديني واستبدال الحروف العربية في اللغة التركية ومنع الأذان باللغة العربية وفرض النظرية الطورانية وكل السياسات المعادية للدين ووحدة الأمة الإسلامية وتنوعها، وكان نهجه سلميا لا يؤمن بالقتال إلا ضد الكفار الأجانب ولذلك أعاب عليه بعض معاصريه عدم دعمه لثورة سعيد بيران. تعرض بديع الزمان النورسي إلى المحاكمات الظالمة والنفي والتعذيب والتضييق والانتقال من سجن إلى سجن واتهم بأنه يسعى لهدم العلمانية والأتاتركية وإعادة الخلافة وإشاعة التدين في تركيا عبر منظمة سرية، وقضى آخر زمانه في المنفى رحمه الله حيث توفي سنة 1960، وبعد الانقلاب الذي وقع في نفس السنة هدمت السلطات قبره ونقلت رفاته إلى مكان غير معلوم إلى اليوم.

استطاعت الحركة النورسية أن تنشأ تيارا إسلاميا حول مؤلفات الشيخ النورسي أهمها رسائل النور، وهو تيار أقرب إلى التيارات الصوفية خرجت منه العديد من المنظمات التي نسبت نفسها إلى الحركة النورسية، غير أن المرحلة الأخيرة في حياة بديع الزمان المتسمة بخيبة الأمل في السياسة واتجاهه رحمه الله أكثر إلى الحياة الإيمانية وبغضه للسياسة جعلت أتباعه الأوفياء له يكتفون بالدعوة إلى إصلاح النفس ولم يتأثروا بحياته الجهادية ومجهوداته الأولى في الإصلاح السياسي على مستوى تنظيماتهم.

استمرت السياسة الصارمة للحكومة التركية الأتاتركية ضد القومية الكردية وأنكرت وجودها وعملت على دمجها بالقوة ضمن القومية التركية فسمّت الأكراد "أتراك الجبال" وحرمت سكان كردستان من حقوقهم الثقافية واللغوية وحاولت تغيير التركيبة السكانية للمنطقة، فلم تأت هذه السياسات المتشددة بنتيجة وتصاعدت المطالب الانفصالية في سبعينيات القرن الماضي أثناء بروز الصدام بين اليسار واليمين في تركيا في ظل الحرب الباردة والدعم الأمريكي المطلق للجيش التركي في مواجهة الاتحاد السوفييتي، وكذلك من أجل إحداث التوازن مع إيران بعد نجاح الثورة الإسلامية الشيعية، وللحد من صعود التيار الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان وتقاربه مع التيار القومي التركي المحافظ.

استطاعت الحركة النورسية أن تنشأ تيارا إسلاميا حول مؤلفات الشيخ النورسي أهمها رسائل النور، وهو تيار أقرب إلى التيارات الصوفية خرجت منه العديد من المنظمات التي نسبت نفسها إلى الحركة النورسية
في تلك الظروف تأسس حزب العمال الكردستاني الماركسي اللينيني عام 1978 وأعلن منذ البداية هدفه الانفصالي، وبعد الانقلاب العسكري التركي المسنود أمريكيا عام 1980 تحول في 1984 إلى العمل المسلح ضد القوى الأمنية والعسكرية وضد المدنيين الأتراك، وضد المدنيين الأكراد الموالين للدولة التركية، وضد الأجانب والسواح والمصالح التركية في الخارج، مما جعله يُعدّ لاحقا منظمة إرهابية في تركيا والعديد من الدول، وأدت المواجهة بينه وبين القوى الأمنية والعسكرية التركية إلى خسائر بأكثر من 45 ألف قتيل وأعداد هائلة من الجرحى والخسائر المادية، وآثار اقتصادية واجتماعية وإنسانية ونفسية خطيرة خصوصا في المناطق الكردية. كانت فترة الثمانينات والتسعينات أخطر مرحلة من مراحل النزاع المسلح بين الأكراد والحكومة التركية، ومن مظاهرها الخطيرة توسع المدى الجغرافي لحزب العمال الكردستاني إلى بلدان الجوار والتنسيق والعمل المشترك مع أكراد العراق وإيران وسوريا، وقد أخذ هذا التنسيق بعدا مؤسسيا بتأسيس مؤتمر المجتمع الديمقراطي الكردي عام 2007.

تلقى الحزب ضربة موجعة حين ألقي القبض على زعيمه عبد الله أوجلان في 1 أيلول/ سبتمبر عام 1999 وحكم عليه بالإعدام، ومن سجنه أعلن توقف العمليات القتالية وانتقال مقاتليه إلى جبال قنديل على الحدود العراقية الإيرانية التركية، وخفف عليه بعد ذلك حكم الإعدام إلى المؤبد، وفي عام 2002 - الذي صعد فيه حزب العدالة والتنمية للحكم ـ أعلن أوجلان وقف القتال والتحول إلى العمل السياسي وبدأت سلسلة من المفاوضات خفضت التوتر إلى المستويات الدنيا ولكن بعد تطورات إيجابية في معالجة الملف الكردي انهار مسار التسوية ورجعت العمليات المسلحة في 2015.لم يكن عموم القوميات المتساكنة في تركيا، التركية أو الكردية أو العربية موافقة على التوجهات العلمانية الراديكالية الطورانية التي فرضها أتتاترك وحزبه “حزب الشعب الجمهوري” الذي يعتبر امتدادا ل”حزب الاتحاد والترقي” المتطرف، ولا على التطرف العلماني اليساري الكردي الذي رهن المناطق الشرقية ذات الأغلبية الكردية، فقد كانت ثمة قوى أخرى معتدلة تعارض تلك التوجهات قبل تأسيس الجمهورية وبعدها – وقد أشرنا إلى هذا الأمر سابقا ـ غير أن فرض الحزب الواحد، وفشل كل محاولات التعددية إلى غاية 1950 لم تسمح بظهور هذه الحقيقة الاجتماعية المعتدلة العميقة.

ولكن فور ظهور الحزب الديمقراطي الذي أسسه عدنان مندريس عام 1947 كممثل للتيار المعارض للتوجهات العلمانية المتشددة المناقضة للدين والمنكرة للقوميات غير التركية اتجه أغلبية الشعب التركي إليه ففاز في الانتخابات عام 1950 وأزاح حزب الشعب الجمهوري المتربع على السلطة لمدة 27 عاما، فقام بخطوات إصلاحية مهمة على الصعيد الاقتصادي والحريات والهوية الدينية مكنته من النجاح لعهدة ثانية فتم الانتقلاب عليه عام 1960 وأعدم شنقا من قبل المؤسسة العسكرية.

بقي يستفيد من التعاطف الشعبي معه بعد وفاته رحمه الله الأحزاب والشخصيات التي اعتُبرت امتدادا له على رأسهم حزب العدالة ثم حزب الطريق القويم ورئيسها سليمان ديميريل. وعبر عن هذا التوجه في مرحلة لاحقة برز السياسي الناجح تورغت أوزال رئيس حزب الوطن الأم عبر دورتين انتخابيتين 1983 و1987 وقد عُرف بتعاطفه مع الأنشطة الإسلامية وقناعته بالحل السلمي مع الأكراد إلى أن توفي في أبريل 1993 بشكل مفاجئ بسكتة قلبية وفق تقارير طبية شككت فيها زوجته معتقدة بأنه تم تسميمه حيث صرحت قائلة: “إن انشغال أوزال قبل وفاته بإيجاد حل سلمي نهائي للمشكلة الكردية ورفضه القيام بعمليات غير قانونية لمواجهة المتمردين الأكراد قد أثار استياء المؤسسة العسكرية”.

ومثل نجم الدين أربكان هذا التوجه بنزعة إسلامية أكثر وضوحا والتزاما، غير أن هذا المفكر والأب الروحي للتيار السياسي الإسلامي في تركيا، المؤمن بالأخوة الإسلامية التركية الكردية والحل السلمي للمشكلة، لم يطل كثيرا في الحكم بسبب إجباره عن التنحي عن رئاسة الوزراء عام 1997، ثم جاء تلميذه رجب طيب أردوغان فأكمل مسيرته وكان ملف معالجة القضية الكردية هو من أهم الملفات التي عالجها.

اقرأ أيضا: كيف يقرأ الإسلاميون العرب الانتخابات التركية وتجربة أردوغان؟ رأي من الجزائر (1)

اقرأ أيضا: كيف يقرأ الإسلاميون العرب الانتخابات التركية وتجربة أردوغان؟ رأي من الجزائر (2)

اقرأ أيضا: كيف يقرأ الإسلاميون العرب الانتخابات التركية وتجربة أردوغان؟ رأي من الجزائر (3)

اقرأ أيضا: كيف يقرأ الإسلاميون العرب الانتخابات التركية وتجربة أردوغان؟ رأي من الجزائر (4)